خلال ساعات قليلة كان أكثر من مليون شخص قد شاهدوا الفيديو، فيديو يصور عاملة نظافة تؤدى مهمتها فى غرفة بأحد الفنادق الأمريكية الكبرى. غلبها الفضول فراحت أصابعها تتسلل إلى داخل حقيبة السفر المفتوحة. وجدت صورا عائلية وصورا لمناظر سياحية وأخرى يظهر فيها النزيل ساكن الغرفة مع آخرين من الجنسين. أخرجتها من الحقيبة وجلست على حافة الفراش تتأمل فيها. انتهت من الصور فأعادتها إلى حيث كانت ثم راحت تقلب بين دفاتره فوجدت رسائل حاولت قراءتها. لم تفهم ما قرأته فأعادتها إلى مكانها. انتهت من ترتيب الفراش وإخراج صحون الإفطار وأباريق الشاى والحليب والفناجين وكئوس العصير وبقايا الزبد والمخبوزات. جاء دور الحمام. دخلته متوجهة مباشرة ناحية زجاجة العطر. جربت رائحة العطر. لاحظت أنه أكثر نعومة من النوع الذى يجربه رجلها، فأغلقت زجاجة العطر، وراحت تحاول إزالة أثره من جلد رسغها، وفشلت.
•••
ما الجديد أو المثير فى الرواية التى نشرت تفاصيلها صحيفة الجارديان البريطانية وقمت فى السطور السابقة بنقلها مع التصرف البسيط؟ كلنا، وأكاد أجزم أننا جميعا، كنزلاء فنادق، نعلم أن غرفنا وحقائبنا وجيوبنا تتعرض لهذا النوع من الفضول. يحدث هذا فى اللحظة التى نترك فيها الغرف وننزل متوجهين إلى زياراتنا ومؤتمرات جئنا لنشارك فى أعمالها. أشهد أننى فى كل مرة تركت الغرفة عدت إليها لأجد كل شىء فى مكانه، والغرفة أنظف مما كانت، بل كثيرا ما وجدت زهرة طبيعية تنتظرنى فى مكان بارز من الغرفة أو باقة زهور تزين الحمام، وصحنا من الفضة الخالصة ممتلئا بعدد من الثمار الطازجة يتوسط المائدة، وبعض قطع الشوكولاتة وقد سبقتنى إلى المخدة التى سبق أن اخترتها من بين أربع أو خمس لتكون أنيسة ليلتى. كنت دائما على يقين أن يدا أو أكثر ستمتد إلى داخل حقيبة السفر، ثم إلى جيوب بدلة تركتها معلقة فى خزانة الملابس، ومنها إلى الأدراج المحشوة بالجوارب والقمصان.
•••
فى حالات معينة غير قليلة ببلاد عديدة، كان يغالبنى الشعور بأن أيادى كثيرة وليست فقط يدى عاملة النظافة امتدت إلى أشيائى وبخاصة إلى أوراقى ومذكراتى ورسائلى تعبث بها أو تفتش فيها. أذكر جيدا الحظة التى دخل فيها أحد الأكاديميين المعروفين عالميا قاعة المؤتمر صارخا ومستنجدا. قال الرجل إنه عاد إلى غرفته فجأة ليجد مجموعة من الرجال يحاولون فك شفرة حقيبة أوراقه تمهيدا لفتحها. درءا للفضيحة وخوفا على المؤتمر من الفشل ذهبنا إليه وتجمعنا حوله لنؤكد له أنه مع اختلاف جنسياتنا ومشاربنا فقد تعرضت حقائبنا لمثل هذا التحرش فى بلده كما فى معظم البلاد التى زرناها.
•••
أعود إلى السؤال، ما الجديد فى قصة الجارديان؟
الجديد هو الفيديو المتداول. أنا نفسى حرصت على مشاهدته رغم أننى كنت ضحية فضول هذه العاملة أو غيرها، فى أكثر من فندق نزلت به. أردت أن أرى بعينى، من خلال الصورة، ما تخيلته دائما يحدث فى غرفة نومى بعد خروجى من الفندق.
أعترف، إننى مثل ملايين غيرى، صرت عبدا للصورة منذ أن تآمرت علينا شركات عظمى وشبكات إنترنت وعباقرة تكنولوجيا وهدفها إخضاعنا للكاميرا. أصبحت أبحث عن الصورة قبل قراءة الخبر وكثيرا ما أغنتنى صور عن قراءة نصوص. أمر كل يوم على صفحتى فى الفيسبوك، لا لأقرأ المكتوب بقدر ما أشاهد الصورة. لست وحدى، فالدولة مثل كل دولة، وضعت فى كل ركن من ميدان أو شارع كاميرا تصور المواطنين. والمواطنون حملوا هواتفهم ذوى الوظائف المتعددة، يصورون بها حركة المدينة، يصورون موائد الطعام وما يأكلون، ومواقف الشراب وما يشربون، وإذا تعبوا من تصوير الآخرين صوروا أنفسهم.
تابعت على مدى يومين قصة الفيديو الذى ظهرت فيه عاملة النظافة تشبع فضولها فى غرفة الفندق. أذهلنى عدد المشاهدين، كما سبق وذكرت، ولكن كان أشد ما استوقفنى هو مواقف المشاهدين من الفيديو. لم أصدق فى البداية أن أغلبية المشاهدين راحوا ينتقدون النزيل الذى أعد الكاميرا وأخفاها، قبل خروجه من الغرفة، لتصوير ما يحدث فى غيابه دون علم العاملة. اتهمه بعضهم بخرق خصوصية عاملة النظافة، بل وذهب أحد المثاليين من الحقوقيين بعيدا حين عاب عليه أنه لم يستأذنها، أو على الأقل يحذرها من وجود كاميرا فى الغرفة تصورها أثناء تأدية عملها. هذا المثالى نفسه هو الذى يطالب أجهزة الأمن على اختلاف مشاربها بأن تحصل على إذن من النيابة قبل أن تقدم على تصويره أثناء ممارسته حياته الخاصة.
•••
سمعت احتجاجا من سيدة، قالت فيه إن الكاميرات فى الغرف والشوارع صارت هما ثقيلا على قلوبنا وخرقا فاضحا لحقوقنا وخصوصياتنا. تحكى تجربتها فى الشركة التى تعمل فيها، منذ أن وضع رئيس الشركة كاميرا فى كل غرفة من الغرف العشرين التى يعمل فيها الموظفون، وفى الحمامات التى يرتادونها، وفى الأروقة وعلى السلالم وداخل المصاعد. أخفى الأمر طويلا قبل أن يعرف الموظفون أنه يحتفظ فى مكتبه بشاشة معلقة فى ركن من غرفته لا يراها إلا من يجلس على مكتبه. الشاشة مقسمة إلى أكثر من أربعين مربعا، لكل كاميرا مربع يبث ما تصوره. كانت حجته، مثل حجة الحكومات، حماية أمن الموظفين ومراقبة انضباطهم. تماما كما فعل رئيس الشركة التى عمل فيها شارلى شابلن فى فيلم الأزمنة الحديثة، الذى أخرجه قبل حوالى ثمانين عاما. كان شابلن وهو يكتب السيناريو يحلم بكابوس. مات الرجل وتحقق الكابوس.
قالت السيدة المحتجة: أقضى يوميا ثمانى ساعات يوميا تراقبنى كاميرات الشركة، وأقضى ساعتين على الأقل تراقبنى الحكومة فى الشوارع والمتاجر والمصارف التى أرتادها لقضاء حاجاتى. أعود إلى بيتى فى نهاية يومى منهكة وكارهة لكل الكاميرات ومتطلعة بكل الشوق لجلسة أتمتع فيها بممارسة خصوصياتنا العائلية بعيدة عن عين كاميرا.
•••
توقفت الصديقة عن الكلام المباح. ما لم تبح به هو أنها لا تدخل إلى غرفة نومها وتطفئ النور، إلا بعد أن تكون قد اطمأنت إلى أن «الكامير» التى تصور رضيعها فى غرفته الملاصقة لغرفتها تعمل بكفاءة، وأن الصور التى التقطتها بهاتفها لنفسها بعد عودتها من العمل وظهرت فيها جميلة وأنيقة وممتلئة بالثقة قد نشرت على صفحتها فى الفيسبوك وحصلت على إعجاب المجموعة.