قمت خلال الأسبوع الماضى بزيارة واشنطن، وخلال ذلك، التقيت مسئولين على المستويين، السياسى والمهنى، فى كل من الإدارة والكونجرس، ومعاهد أبحاث رئيسية، وصحافيين كبار، ومؤثرين فى الرأى العام. لطالما شعرت فى غرف المناقشات واللقاءات، فى زيارات كثيرة سابقة إلى واشنطن، بثبات العلاقة والصداقة بين الحليفتين، حتى حينما كانت هناك خلافات فى الرأى بينهما. أما هذه المرة، فقد شعرت بأن شيئا ما تصدع فى الثقة الأمريكية بإسرائيل.
إن الشكوك، فى واشنطن، تتعمق بشأن طبيعة العلاقات مع إسرائيل، وتلك المتعلقة بالسؤال بشأن ما إذا كانت سياسات إسرائيل تخدم المصالح الاستراتيجية الأمريكية، بل أيضا إذا كانت هذه السياسات تخدم المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية نفسها. وتسود هذه المشاعر تجاه إسرائيل بين من يعتبرون من «التيار السائد» الأمريكى، وليس فقط من جهات من تيار اليسار التقدمى فى الحزب الديمقراطى.
ومن المفاجئ، فى مكان ما، أن هذه العقلية المثيرة للقلق فى واشنطن تأتى تحديدا بعد هجوم 7 أكتوبر، وفى ضوء تجند الولايات المتحدة غير المسبوق، بتوجيه وقيادة كبيرين من بايدن، لدعم إسرائيل سياسيا وعسكريا فى جميع جبهات المواجهة التى فرضت عليها. وفى كثير من اللقاءات، كرر من تحدثت إليهم أسئلتهم المتعلقة بالأسباب التى تدفع حكومة إسرائيل إلى اختيارها النزاع العلنى مع الإدارة الأمريكية التى تقف إلى جانبها فى أحلك أوضاعها، قائلين إنه من المناسب اليوم أن تجرى إسرائيل مع هذه الإدارة حوارا بشأن الشراكة فى ترسيم مستقبل الإقليم، ومستقبل الساحة الفلسطينية داخله، بصورة تضمن المصلحة الإسرائيلية الأمنية.
تبذل واشنطن جهودها من أجل منح إسرائيل مزيدا من الوقت، ومواصلة إسنادها، حتى لو كبدها ذلك أثمانا سياسية باهظة، يدفعها الرئيس بايدن فى سنة الانتخابات هذه. وفى الوقت ذاته، فإن الإدارة تتوقع من الحكومة الإسرائيلية أن تنسق موقفها معها، كما تتوقع منها، بصورة خاصة، ضمان دخول المساعدات الإنسانية بحجم كاف، وجعْل النشاطات العسكرية فى القطاع دقيقة من أجل تقليل الخسائر فى صفوف المدنيين (وهى خسائر من شأنها أن تفاقم الضغوط على الإدارة)، إلى جانب كبح العنف القومى [عنف المستوطنين] فى الضفة الغربية. ومع ذلك، فإن الإدارة تشكك فى قدرة إسرائيل على تحقيق الأهداف التى وضعتها للحرب بواسطة الجهد العسكرى وحده، من دون العمل سياسيا بالتوازى مع ذلك، من أجل إنشاء بديل لحركة «حماس» فى غزة.
إن ما ينظر إليه على أنه تجنب إسرائيلى لاتخاذ قرارات عملية وسياسية فيما يتعلق بـ«اليوم التالى» فى غزة والإقليم يثير إحباطا عميقا فى واشنطن، ويجعل من الصعب عليها مواصلة دعم إسرائيل فى الحرب، وهذا الفراغ السياسى دخلتْه أطراف أخرى فى الإدارة الأمريكية، وأوروبا، وتدفع فى اتجاه الاعتراف بدولة فلسطينية.
• • •
من الواضح أن لا مصلحة لإسرائيل بأن يحظى الشعب الفلسطينى بشرعية دولية و«جائزة» تتمثل فى الاعتراف بدولة فلسطينية. والسبيل إلى عدم تحقيق سيناريوهات كهذه هو إجراء الحوار البناء مع الإدارة الأمريكية بشأن رؤية إقليمية مشتركة، بالتعاون مع معسكر الدول العربية المعتدلة، وفى إطار هذا الحوار، على إسرائيل أن تشترط لدى البحث فى التوصل إلى أى حل سياسى، بأن يكون الكيان السياسى الفلسطينى منزوع السلاح، وتوقفه عن دفع الرواتب إلى المحرضين ضد إسرائيل. ومعظم هذه الشروط مقبولة من الأمريكيين، وإسرائيل لديها فرصة تاريخية لترسيخها فى الخطاب الدولى.
وتعتمد الاستراتيجيا الأمريكية، للخروج من الأزمة فى غزة والشرق الأوسط، على التنفيذ الفورى لصفقة تبادل من شأنها أن تؤدى إلى هدنة فى الحرب، وتتيح القيام بعدة إجراءات، منها: تسريع الإصلاحات الشاملة فى السلطة الفلسطينية (وفقا لتصور بايدن بشأن السلطة «المجددة»)، واستقرار الوضع فى الضفة الغربية عشية شهر رمضان، الذى يعد شهرا حساسا، والأعياد اليهودية التى تليه، والشروع فى إنشاء بديل سلطوى لحركة «حماس» فى غزة، والدفع فى اتجاه تسوية سياسية مع لبنان، استنادا إلى قرار مجلس الأمن رقم 1701، والذى سيحول دون اندلاع حرب واسعة النطاق بين إسرائيل وحزب الله.
وبحسب التصور الأمريكى، فإن تحقيق الاستقرار الأمنى فى بلاد الشام يعد ضامنا لنجاح الولايات المتحدة فى تهدئة حيز البحر الأحمر والخليج، والامتناع من الانزلاق نحو مواجهة عسكرية واسعة النطاق مع أنصار إيران فى الإقليم، وخصوصا الحوثيين فى اليمن والميليشيات الشيعية فى العراق، وهى مواجهة يمكن أن تكبد الولايات المتحدة خسائر فى أرواح مزيد من الجنود الأمريكيين فى المنطقة، ويمكن أن يتسع نطاق الأمور ليتحول إلى مواجهة مباشرة مع إيران.
إن هذه الإدارة مستعدة لدخول حوار معمق مع إسرائيل بشأن ترسيم الخطوط الاستراتيجية العامة للإقليم، وتوظيف كثير من الاهتمام، كالجهد المبذول فى الأيام العادية فى التنافس مع الصين. لكن ردات فعل الحكومة الإسرائيلية وإجراءاتها، ينظر إليها فى واشنطن بصفتها رفضوية وناكرة للجميل، وفى أوضاع كهذه، فإن الميل فى واشنطن يبدو متصاعدا نحو الدفع فى اتجاه خطوات من فوق رأس إسرائيل، فقد أدى تصاعد خسائر المدنيين فى القطاع إلى إطلاق عدة إجراءات تهدف إلى التأكد من التزام إسرائيل واجباتها فى استخدام السلاح الأمريكى وفقا للقانون الدولى، مع المحافظة على حقوق الإنسان. وتقوم الولايات المتحدة، بالتعاون مع دول عربية، بتنسيق خطوات متعددة، فى إطار استعدادها لليوم التالى فى غزة، كما أن ما ينظر إليه بصفته فجوات فى معالجة مشكلات الجرائم القومية فى الضفة الغربية [اعتداءات المستوطنين] أدى إلى فرض عقوبات ضد مستوطنين.
• • •
على الرغم من الاتجاه السلبى الذى تنجرف إليه العلاقات مع واشنطن، فإنه من المهم تأكيد أن الإدارة لا يزال لديها استعداد عميق للاستماع إلى تصور واضح من إسرائيل بشأن الاتجاهات التى تسعى لها، والأهداف السياسية التى تسعى لتحقيقها. وتثبت الخبرة التاريخية أن إسرائيل لديها قدرة تأثير واسعة فى إجراءات الإدارات الأمريكية، بالاستناد إلى قنوات الاتصالات المتفرعة القائمة بين الدولتين على جميع المستويات، وبسبب التحالف العميق القائم بينهما.
لذلك، فإن استعداد الحكومة الإسرائيلية لدخول حوار عميق وجدى مع الإدارة سيتيح لها التأثير فى سياسات الولايات المتحدة، بل أيضا ترسيمها، وذلك بحسب المصالح الإسرائيلية الحيوية؛ على غرار ضمان المحافظة على السيطرة والصلاحيات الأمنية الإسرائيلية الواسعة فى منطقة غربى نهر الأردن فى أى تسوية سياسية مستقبلية، فهذه الصلاحيات كانت واضحة تماما للإدارة، حتى قبل 7 أكتوبر، وقد ازداد وضوحها بعده. هذا فضلا عن نزع سلاح أى كيان سياسى فلسطينى فى غزة والضفة الغربية، بالإضافة إلى المحافظة على حرية العمل الأمنى الإسرائيلى فى الميدان من أجل مواصلة تفكيك خلايا «حماس»، لعدة أسباب، منها منع نشوء «نموذج حزب الله» فى غزة، أى النموذج الذى تواصل الحركة فى إطاره تحقيق تعاظمها العسكرى فى ظل حكومة وحدة وطنية فلسطينية تتمتع بشرعية دولية.
من ناحية أخرى، فإن استمرار سياسة مجابهة الإدارة الأمريكية يمكن له أن يحجب المصالح الإسرائيلية، بل أيضا أن يضر بها فى سياقات متعددة بـ«القبة الحديدية» السياسية التى توفرها أمريكا فى المنظمات الدولية المتعددة، وخصوصا فى مجلس الأمن، فضلا عن الحماية الفاعلة من الصواريخ التى تطلق فى اتجاهنا من اليمن، بالإضافة إلى طول النفس العسكرى، وحرية التحرك والردع، ولا ننسى المساعدة الاقتصادية وتوفير التقنيات المتطورة، والتكامل الإقليمى، والتأثير فى كبح التهديد النووى الإيرانى، وغير ذلك من المصالح.
خلاصة القول: إن الأوان لم يفت بعْد لتغيير الاتجاه، والعمل بالتفاهم والتعاون مع إدارة بايدن، وخصوصا أن إسرائيل لا تملك بديلا للدعم الأمريكى القوى، وهو أمر صار شديد الوضوح بعد 7 أكتوبر. ومن ناحية أخرى، فإذا استمرت إسرائيل فى اتباع نهج المجابهة الحالى مع الإدارة الأمريكية، فسوف ينظر إليها على أنها تخرب المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، وتتدخل فى السياسة الداخلية فى واشنطن، والضرر الذى سيلحق بمكانة إسرائيل فى الولايات المتحدة سيجعلنا نندم ندما شديدا.
عاموس يادلين
قناة N12
مؤسسة الدراسات الفلسطينية