فى 11 يوليو 2012، رحل عنّا الكاتب الصحفى الكبير الأستاذ سلامة أحمد سلامة، أستاذى وأستاذ أجيال متعاقبة من الصحفيين.
أحد رموز المهنة الناصعة، بتفانيه وتجرده ونزاهته واستغنائه، وهى معان أظن أننا بحاجة إلى استحضارها فى هذه الأيام أكثر من أى وقت مضى.
هذا مقال كتبته فى ذكرى رحيله العام الماضى، واليوم أعيد نشره متذكرا ذكراه العطرة، ومستحضرا كل ما يمثله صاحبه من قيم مهنية وإنسانية رفيعة، هى الأبقى والأنقى.
بدأت علاقتى بالأستاذ سلامة أحمد سلامة منذ ثلاثة عشر عاما تقريبا، حين دعانى لمقابلته فى مكتبه بالأهرام، ليعرض علىّ الانضمام إلى مجلس تحرير مجلة «الكتب.. وجهات نظر»، ولا أعرف إذا كان هو من اختارنى، أو أن أحدا ممن يحسنون الظن بى أرشده إلىّ.
حين جلست معه تكلمنا فى مسائل عديدة، ولاحظت أن الكاتب الكبير مازالت لديه بقايا من «لكنة» فلاحية، تظهر فى بعض تعبيراته برغم أنه يقرأ ويكتب بلغتين على الأقل، لاحظت أيضا أن وجهه ذا التقاسيم الجادة الصارمة يخفى طيبة لافتة، خصوصا حين يضحك أو يعلق ساخرا على موضوع ما.
لاحظت أخيرا بسعادة لم أستطع أن أخفيها، أنه يقرأ ما أكتب ويناقشنى فى بعضه، وكنت وقتها أعمل فى جريدة الوفد، وأكتب تحقيقات ثقافية وعروض كتب فى جريدة «الحياة» اللندنية.
وحين بدأنا العمل فى «وجهات نظر»، مع مجموعة رائعة من الأساتذة والزملاء على رأسهم الأستاذ الكبير جميل مطر أطال الله فى عمره، والأستاذ عاصم القرش الذى كان بمثابة رئيس التحرير التنفيذى للمجلة، قبل أن ينضم إلينا الأستاذ أيمن الصياد رئيس التحرير الحالى، توثقت علاقتنا وتأكدت محبتى له كاتبا وإنسانا، وهى مسألة نادرة، إذ كثيرا ما تتكسر صورة من نحب حين نلقاهم، ونتمنى لو بقيت محبتنا لهم على البعد، ولم تتجاوز معرفتنا بهم ما يصلنا منهم من إبداع، لكن ذلك لم يحدث مع الأستاذ، الذى كان عموده «من قريب» فى الأهرام، أول ما أقرأ فيها، وكنت أعجب ــ وأتعلم ــ كيف يكتب معارضا أكبر رأس فى البلد بذوق وثقة واحتراف، ودون كلمة عيب واحدة، فإذا وضعت إلى جانب هذا أنه كان يكتب ما يكتبه فى جريدة حكومية، أمكنك أن تقدّر حجم المخاطرة ومقدار الشجاعة التى تحلى بها الرجل.
فى «وجهات نظر»، كنّا نتناقش بشكل يومى تقريبا، عن كتب قرأناها وأفكار يمكن إثارة جدل ثقافى حولها، كما تعودت أن أتلقى ملاحظاته الذكية المهذبة باهتمام بالغ، وبروح نهمة للتعلم والمعرفة، كما هى حالة الشيخ والمريد فى الصوفية.
وحين دعانى المهندس إبراهيم المعلم للانضمام إلى كتيبة «الشروق»، كان أكثر ما أسعدنى أننى سأواصل العمل والتعلم من جديد، تحت قيادة الأستاذ.
كان سلامة أحمد سلامة ليبراليا حتى النخاع، نموذج للنزاهة والاستقامة المهنية والإنسانية، قلم شريف غير قابل للكسر، عصى تماما على كل محاولات البيع والشراء، ينتمى إلى قلة من أساتذة المهنة توشك أن تندثر، تؤمن بأن لديها رسالة، وأن كلماتها ليست «بين بين»، فهى إما ورد تنثره على جبين الشرفاء من أبناء الوطن، أو شذرات من جمر تقذفها فى وجوه الظالمين والمفسدين.
والآن، ليس لدينا أصدق مما قاله أمل دنقل تعبيرا عن فداحة الفقد: «كل الأحبة يرتحلون، فترحل شيئا فشيئا عن العين ألفة هذا الوطن».