خريطة واشنطن وأزمة الخليج - محمد المنشاوي - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 5:56 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خريطة واشنطن وأزمة الخليج

نشر فى : الخميس 20 يوليه 2017 - 9:40 م | آخر تحديث : الخميس 20 يوليه 2017 - 9:40 م
محاولة فك طلاسم الموقف الأمريكى من الأزمة الخليجية الجارية والممتدة منذ ما يقرب من الشهرين ليست بالشىء الهين، فالأزمة ذاتها شديدة التعقيد بعيدا عن واشنطن، وكان لتناقض مواقف أركان الإدارة الأمريكية ــ خاصة خلال أيامها الأولى ــ أثره فى زيادة تعقيد الأزمة، ومع ذلك أعتقد أنه يمكن تبسيط تعقيدات واشنطن بداية من خلال تفهم رؤية اللاعبين الأساسيين لدورها كعاصمة مؤثرة، وانتهاء بإدراك هؤلاء اللاعبين لدورهم ومكانتهم وحجم تأثيرهم داخل عاصمة القرار الأمريكى. ومنذ ساعات الأزمة الأولى بدا واضحا أن محددات موقف واشنطن الحقيقى تتلخص فى نقطتين أساسيتين؛ أولاهما: ألا يتم اتخاذ أى خطوات عسكرية من أطراف الأزمة، وثانيتهما: ألا تؤثر أى من إجراءات الحصار وغلق المجال الجوى على حرية حركة الطائرات العسكرية الأمريكية المنطلقة من قاعدة العيديد القطرية سواء فى عملياتها المتجهة نحو سوريا أو العراق أو أفغانستان، وبدا واضحا أن الرسالة الأمريكية وصلت بوضوح لكل أطراف الأزمة.
ولفهم موقف واشنطن بصفة عامة ربما نحتاج إلى العودة لعقود طويلة، فقد كان اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 دافعا لبدء تعامل واشنطن مع دول الخليج الست كوحدة واحدة عندما يتعلق الأمر بالمصالح الاستراتيجية لها فى المنطقة. وكان إعلان الرئيس السابق جيمى كارتر ــ فى خطاب حالة الاتحاد عام 1980 «أن أى محاولة من قوة خارجية للسيطرة على الخليج العربى هى بمثابة اعتداء على المصالح الحيوية لنا، وستتم مواجهة هذا الاعتداء بأى وسيلة ضرورية، بما فى ذلك القوة العسكرية» ــ كافيا لتوجيه رسالة جادة ومباشرة لمن يفكر فى الاقتراب من الخليج. ثم ساهمت الحرب العراقية الإيرانية 1980 ــ 1989 من تعضيد الشراكة الاستراتيجية بين دول الخليج وواشنطن، وجاء غزو العراق للكويت عام 1990 والدور الأمريكى فى تحريرها لتتيقن الدول الخليجية، كل على حدة، من ضرورة تدعيم علاقاتها العسكرية مع واشنطن. ودوما ما أكدت واشنطن واستخدمت مصطلح «أمن منطقة الخليج» دون تمييز بين دوله الست التى تصنفهم دوائر الحكم والفكر هنا كدول سنية. نعم، لواشنطن تواجد عسكرى مستقل كذلك على الرغم من تفاوت عدد القوات الأمريكية فيها. ونعم، تعقد واشنطن صفقات سلاح وتقوم بمناورات مستقلة مع تلك الدول، إلا أن المخططين الاستراتيجيين هنا يرون الجانب العربى من الخليج كمنطقة متناسقة تتفرد فيها واشنطن بنفوذ غير مسبوق، ولا تتخيل واشنطن أن تعرقل أو تهدد خلافات الدول الخليجية مصالح واشنطن الاستراتيجية هناك. 
***
أصبحت واشنطن العاصمة الأهم لكل الدول الخليجية، وظهر ذلك بوضوح أخيرا فى حالتين مهمتين، فعندما بدأت السعودية وتحالفها المشاركة فى حرب اليمن فى مارس 2015، خرج سفيرها من واشنطن حينذاك عادل الجبير ليعلن للعالم بدء المعارك، ولم يخرج الإعلان من الرياض. وبعد أكثر من عامين أشرف ونسق سفير الإمارات يوسف العتيبة على مؤتمر عُقد فى واشنطن حول «علاقة قطر بجماعة الإخوان المسلمين وتمويل التطرف»، وهو مؤتمر يعتبره البعض رسالة رسمية لبدء الأزمة الخليجية الحالية. الجبير والعتيبة، وكلاهما تخرجا فى جامعة جورج تاون، خانهما التوفيق فى فهم خريطة توازنات واشنطن على الرغم من مكوثهما سنوات طويلة بها. وعلى الرغم من إتقانهما اللغة الإنجليزية باللهجة الأمريكية، فإنهما يفتقدان دقة الحكم وتوقع رد الفعل الأمريكى، ناهيك عن عدم إدراكهما لصورة دولتيهما الذهنية عند صانعى القرار الأمريكى خاصة فيما يتعلق بمشاركة 15 سعوديا وإماراتيَيْن فى أكبر حوادث الإرهاب ضد أمريكا (أحداث 11 سبتمبر 2001). كذلك تجاهلا واستخفا بمصالح واشنطن الهيكلية فى الخليج وبثقافة مؤسساتها الأمنية والدبلوماسية بعيدا عن أى شخصنة أو تفضيلات شكلية. وظهرت قدراتهما محدودة فى المعارك الجادة، فقد أنفق الجبير والعتيبة ملايين الدولارات لإثناء الكونجرس عن تبنى قانون جاستا، وحققا فشلا ذريعا، إذ صدق الكونجرس على القانون بما يشبه الإجماع على الرغم من استخدام الرئيس الأمريكى لحق الفيتو.
لم تقتنع واشنطن المؤسسية بمنطق الإمارات والسعودية، وكسبت قطر معركة الرأى العام الأمريكى خاصة مع نشر المطالب الـ13 غير الواقعية. تناسى عمدا أو جهلا الجبير والعتيبة أن واشنطن تتمتع بفصل بين السلطات، وأن هناك مصالح هيكلية لها فى المنطقة، وأنها لن تعاقب دولة لها علاقات عسكرية وثيقة مع البنتاجون، وأن الدول المُسلحة أمريكيا لا يُسمح لها بالتنازع الحقيقى فيما بينها. ويبدو أن العتيبة والجبير أكدا لملك السعودية ولحاكم أبو ظبى أن واشنطن مضمونة فى جانبهما، وسمحت تغريدات الرئيس المأزوم دونالد ترامب بتسريب هذا الإحساس لديهما، وهو رئيس لم يكن ليعرف أن لبلاده أكثر من عشرة آلاف جندى فى قاعدة العيديد بقطر. ويبدو أن نجاحات العتيبة الشكلية فيما يتعلق بموقف واشنطن من إيران أو حركات الإسلام السياسى، ونجاحات الجبير فى الترويج للموقف السعودى من الحرب فى اليمن، قد أغراهما بتوقع موقف مغاير لوزارة الدفاع، ووزارة الخارجية من النزاع الخليجى. 
***
يختلف الأمر كلية مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية، إذ لا تغفر تلك الأجهزة محاولات اللعب والتأثير فى مفاصل العملية السياسية الأمريكية الداخلية متمثلا فى انتخاباتها الرئاسية. ويمكن لدبلوماسى عربى أو أجنبى استثمار علاقاته وأمواله للتأثير على موقف نخب واشنطن من قضية خارجية إقليمية تهم دولته، وله كذلك الحق فى أن يغدق بالمال والرشاوى المقننة فى سبيل تحقيق أهدافه. إلا أن هذا يجب ألا يجعلك تسىء الفهم وتحاول التأثير فى اختيارات الناخب الأمريكى، أو أن تعلب دورا مشبوها فى الانتخابات وما بعدها. من هنا يمكن أن نتفهم فضح مسئولين بوكالة الاستخبارات المركزية لوقوف دولة الإمارات وراء اختراق وكالة الأنباء القطرية، وهو ما أدى إلى اندلاع أزمة الخليج الحالية، على الأقل من الناحية الشكلية. وفصل مسئولو استخبارات أمريكيون لصحيفة واشنطن تفاصيل اجتماع مسئولين كبار فى الحكومة الإماراتية لمناقشة خطة قرصنة وكالة الأنباء القطرية فى 23 مايو الماضى، أى قبل يوم من حادث القرصنة فى اجتماع بأبوظبى. وجلىٌّ أن ذلك كان رد فعل محدودا من قِبل الاستخبارات الأمريكية على قيام محمد بن زايد، وولى العهد الإماراتى بتنظيم اجتماع سرى فى يناير الماضى بين مسئولين روس مقربين من رئيسها فلاديمير بوتين فى جزيرة سيشيل وفريق ترامب، وذلك لإقامة خط اتصال خلفى بين موسكو والرئيس الأمريكى الجديد. وكشفت الاستخبارات الأمريكية عن محاولة تسلل بن زايد لمدينة نيويورك ليلتقى فى برج ترامب مع ثلاثة من مستشارى ترامب هم مايكل فلين وجاريد كوشنر وستيفن بانون للاتفاق على تفاصيل الاجتماع. 
لواشنطن نفوذ غير مسبوق فى الخليج، ويكفى أن النخب الخليجية الجديدة تتحدث اللغة الأمريكية أفضل من لغتها الأم العربية، ويكفى أن أغلب أهم جامعاتها أصبحت أمريكية، ناهيك عن الشق العسكرى. من هنا قصد وزراء خارجية دول النزاع الخليجى الثلاث (السعودية والإمارات وقطر) واشنطن ساعين للتأثير فيها والترويج لموقف دولهم من الأزمة، ثم تحرك وزير الخارجية الأمريكية مكوكيا بين الكويت وأطراف الأزمة. إلا أن المؤكد حتى الآن أن الأزمة، وطبقا لشهادة سفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة نيكى هيللى، تمثل فرصة لواشنطن للحصول من طرفى النزاع على المزيد مما تريد.

 

محمد المنشاوي كاتب صحفي متخصص في الشئون الأمريكية، يكتب من واشنطن - للتواصل مع الكاتب: mensh70@gmail.com
التعليقات