كنت أعمل بشركة أمريكية كبرى فى مصر عندما فجع العالم ــ المتحضّر ــ بتفجيرات الحادى عشر من سبتمبر عام 2001. العناوين الرئيسية فى كل مواقع الأخبار الشهيرة تحمل عبارات مخيفة، كان غالب ظنى أنها مجرد سطو إلكترونى على تلك المواقع، وإلا ما الذى حدا بشبكة أخبار مهمة مثل CNN أن تتصدر صفحاتها بحروف بارزة كلمات مثل «يوم الذعر فى الولايات المتحدة»؟! بالفعل كانت كارثة كبرى لايزال العالم يدفع ثمن تبعاتها حتى اليوم وفى مقدمتهم المسلمون. على الفور رفعت الشركة التى أعمل بها كود الخطر إلى درجات أعلى، واضطرب الجميع وتوقعوا مزيدا من الهجمات على أهداف أمريكية شرقا وغربا. المشهد المأساوى آنذاك لم يكن يتطلب دينا قيما أو حكمة صالحة يحملان صاحبهما على التعاطف مع الضحايا لكن شيئا غريبا حدث فى العالم العربى!!
هذا أحد المسئولين العرب يوزّع الحلوى ابتهاجا بسقوط أمريكا! وإذا بآخرين يحتفلون فى الشوارع فرحا بما أصاب الغرب الظالم! ونفر يزعم خطيبهم أن هذا نصر الله المبين على الشيطان الأكبر!.. كل ذلك ولمّا تجف دماء الضحايا على أرض الحوادث المفزعة بعد.. خطباء السوء على منابر بعض المساجد ظلوا يضربون بالحادث مثلا على نهاية الطغاة الأمريكان الذين يعتقد أن بلادهم هى «عاد الثانية» التى تقابل الوصف القرآنى لقوم نبى الله هود «عاد الأولى»!. حتى أثرياء الخليج عرض أحدهم مليارات الدولارات على عمدة نيويورك الشهير «جوليانى» بينما يعيّره بسياسات بلاده التى أهلكتهم، فأبى الرجل إلا أن يرد المال على صاحبه اعتزازا ببلاده ورفضا لمنطق الشامت المخذّل الذى يرتدى ثياب الإحسان زورا.
***
بعد أن أفاق العالم من صدمة الحوادث الإرهابية البشعة، انتبه المحللون والعوام من متابعى نشرات الأخبار إلى موجة الكراهية التى اجتاحت كثيرا من العرب ونضحت عليهم فى صورة شماتة غير مسبوقة، حمدا لله أن مواقع التواصل الاجتماعى لم تكن قد انتشرت بعد كى يقتصر الأمر على التغطيات الإعلامية.
صحيح لم تكن مظاهر الشماتة غالبة على جميع العرب، لكن ثقافة الكراهية التى ظل دعاة السوء يزرعونها لعقود بدأت تؤتى ثمارها، فالإنسان المجبول على تلك الثقافة من الطبيعى أن يرى الأغيار أهلا لكل مصيبة، وأن الله يرفع أقواما على ظلمهم لمجرد أنهم أظهروا الإسلام وإن كانت تعاليم الإسلام أبعد ما تكون عن سلوكهم، وأن النصر المرتقب والمهدى المنتظر هما وعد الله لعباده المسلمين الذى لن يتحقق إلا بخسف الآخرين!! فالنصر لا يأتى إذن بالعمل أو السعى كما تعلمنا من صحيح الإسلام، وإنما هو عطية سهلة للمتخاذلين المتواكلين تهبط من السماء فى صورة هلاك لكل المتفوقين علينا بالعلم والعمل! أى قيمة يمكن أن تنشأ عليها عقيدة فاسدة مثل هذه؟! صكوك الجنة التى كانت تمنحها الكنيسة فى عصور الظلام الأوروبى تطورت فى عصور ظلامنا نحن كى تصبح صكوك نعيم للكسالى والمتخاذلين. ليس من المهم وفقا لصكوك نعيم الكسالى أن يرتفع الناتج المحلى أو نسبة الإنفاق على البحث العلمى أو جودة التعليم وسائر عناصر التنمية البشرية. ليس مهما أن تحقق اكتفاء ذاتيا من الإنتاج أو أن تتمكّن من تصدير المنتج الحسى والمنتج المعنوى القيمى لتعظيم إسهامك فى مسار التاريخ ونفع البشرية.. المهم أن يسقط الجميع من حولك كى يتحقق التميز المزعوم، فلتفرح بالزلازل والبراكين تضرب الناس شرقا وغربا ولا بأس أن تتقدم بيد العون لهم على سبيل الشماتة والإذلال معا! ولتحتفل فى نفسك بكل مصاب يعطّل منافسيك على مضمار صناعة مستقبل البشر، لأن هذا يعنى أنك ستبقى وحدك وتصبح الأول والأهم بالطبع!.
***
المفارقة الكبرى تكمن فى أن وازع التدين الزائف الذى تختفى وراءه نزعات الكراهية ومظاهر التواكل والكسل ثبت بالملاحظة بل وبالدليل العلمى أنها أبعد ما تكون عن تعاليم الإسلام. فى مقال منشور عام 2010 بالدورية العلمية volume 10 issue 2» Global Economy Journal,» تحت عنوان«How Islamic are Islamic Countries» توصل الباحثان بجامعة جورج واشنطن «شهرزاد رحمان» و«حسين عسكرى» إلى أن الدول العربية والإسلامية تحتل مراكز متأخرة ضمن قائمة الدول التى تطبق ــ فعلا ــ تعاليم الإسلام!!. عقد الباحثان مقارنة بين دساتير 208 دول وأسس الحكم فيها واقتصاداتها وطبيعة تعاملها مع المواطنين.. مع عدد من مبادئ الإسلام المستمدة من القرآن والسنة بلغ عددها 113 متغيرا تتصل فى معظمها بتحقيق العدالة وتوزيع الثروة واحترام الحريات وإدارة الاقتصاد..
وتوصل البحث إلى خلاصة مفادها أن الدول الاسلامية وخاصة العربية لا تحتل المراتب الأولى فى الالتزام بالقرآن وصحيح السنة!، بل إن دولا مثل نيوزيلاندا ولوكسمبورج وأيرلندا تأتى على رأس قائمة الدول المطبقة لتعاليم الإسلام بينما احتلت ماليزيا المركز الأول (بين الدول ذات الأغلبية المسلمة) والمركز الـ38 على العالم فى مؤشر «العام» للالتزام بالإسلام «Islamicity» الذى تم تطويره لخدمة أغراض البحث، فى حين جاءت مصر فى المركز الـ153 والسودان فى المركز الـ202 والصومال فى المركز الـ206 والسعودية فى المركز الـ131 وقطر فى المركز الـ112 وسوريا فى المركز الـ186، ولا يستثنى من الدول العربية فى غيابها المطلق عن المراكز الخمسين الأولى سوى دولة الكويت فى المركز الـ48!!.
***
الإسلام إذن برىء من الكراهية والتواكل، وما آلت إليه أحوال العرب من تراجع على سلّم التميز والبحث العلمى (بلغ متوسط الإنفاق على التطوير والبحث العلمى فى الدول العربية 0.3% من الناتج المحلى الإجمالى عام 2011 وفقا لإحصاءات اليونيسكو) يأتى باعتباره واحدة نتائج تراكم خطايا الوعظ الجاهل على العقل الجمعى والثقافة المشتركة لكثير من العرب. الشخصية العربية بحاجة إلى المراجعة وأخص بالذكر شخصية المصريين التى آثرنا أن نردد عبر الزمن أنها الأفضل والأكثر إنسانية.. وكثير من مسلمات لم يعد لها وجود على أرض الواقع.
يلخص مشهدنا البائس فى السعى إلى التميّز على أشلاء وجثث المتفوقين علميا وحضاريا أحد أفلام هوليوود المستوحاة من رواية «كوكب القرود» للروائى الفرنسى «بيير بوليه» والتى نشرت عام 1963. الفيلم يرصد فى أحدث أجزائه كيف أن كوكب الأرض أصبح تحت قبضة القرود من دون البشر، وذلك بعد أن ضرب العالم فيروس مخلّق قاتل يرفع من معدلات ذكاء القرود بينما تقتل عدواه سائر البشر.. تلك هى الحالة الوحيدة التى رأى المؤلف أنها تمكّن القرود من حكم العالم والسيطرة على موارده.. فهل ينتظر العرب أن يقضى فيروس قاتل على كل إنسان متحضّر يقدس قيمة العلم ويحترم حقوق وحريات البشر حتى يحكمون العالم؟!