تتيح طبيعة النظام الأمريكى لعدة جهات المشاركة فى صنع السياسة الخارجية، إلا أن القرارات الحاسمة يتخذها الرئيس بنفسه بعدما تُعرض عليه جميع البدائل المتاحة. وتمثل الحالة السورية نموذجا لتداخل أجهزة صنع السياسة الأمريكية، بل تنافسها أحيانا، فى سبيل الدفع برؤيتها وبدائلها للرئيس أوباما. وزارتا الخارجية والدفاع تقومان بدور مهم، وكذلك وكالة المخابرات المركزية، ومجلس الأمن القومى، إلا أن القرار فى النهاية للرئيس وحده. واختلفت طبيعة دور وتأثير كل من هذه الأجهزة على مدى الحرب الأهلية السورية المستمرة منذ أكثر من خمس سنوات.
وسمح التدخل العسكرى الروسى المباشر فى الحرب السورية بزيادة نفوذ وتأثير وزارة الدفاع على حساب الأجهزة الأخرى، فيما يتعلق بصنع القرار الأمريكى تجاه الأزمة السورية.
***
منذ بداية الأزمة، أدرك البنتاجون حقيقتين، أولهما أن سوريا لا تمثل أزمة حقيقية لواشنطن، فسوريا ليست مصر من حيث ارتباطها المباشر بخدمة المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط، ولا توجد علاقات عسكريةــ عسكرية بينهما، ولا تربط دمشق بإسرائيل علاقات رسمية أو معاهدة سلام يتوجب الحفاظ عليها. ويعتقد البنتاجون أنه حقق مكسبا تكتيكيا بعدما نجحت واشنطن فى الضغط على نظام الأسد للتخلص من ترسانته الكيمائية. الحقيقة الثانية تمثلت فى إدراك البنتاجون لما يطلق البعض عليه مبدأ أوباما Obama Doctrine، والذى يستبعد معه الرئيس الأمريكى استخدام القوة المسلحة إلا للضرورة القصوى، التى تمثل تهديدا واضحا مباشرا للأمن القومى الأمريكى، ولم تمثل سوريا تهديدا لمصالح واشنطن.
إلا أن التدخل الروسى قبل عام غيَر من موقف البنتاجون، فى الوقت الذى يدرك فيه، كمؤسسة عسكرية، دوافع تدخل روسيا لحماية أحد حلفائها الدوليين مع تزايد عزلتها الدولية عقب الأزمة الأوكرانية، والتى نتج عنها عقوبات غربية قاسية ومكلفة أثرت سلبا على الداخل الروسى، وأضرت باقتصادها. وبالتدخل أصبحت روسيا لاعبا محوريا فى أزمة اعتقدت واشنطن أن موسكو بعيدة عنها. ويدرك البنتاجون أيضا خسارة روسيا لأسواق سلاح تقليدية مهمة مثل العراق وليبيا، أصبح الحفاظ على سوق مهمة للسلاح مثل سوريا مصلحة مهمة لشركات السلاح الروسية. وتهدف روسيا أيضا تعميق التعاون العسكرى مع إيران، والتى بدأت فى تحديث ترسانتها من الأسلحة التقليدية المتقدمة عقب توقيع الاتفاق النووى، وبالفعل عقدت صفقات كبرى مع بدء تلقى طهران ودائعها المحتجزة بالغرب، والتى تتجاوز مائة مليار دولار. وتمثل الهجمات الجوية الروسية فرصة لموسكو لاستعراض أحدث ما تنتجه مصانعها العسكرية فى أرض معركة حقيقية.
وعلى الرغم مما يمثله التدخل العسكرى الروسى من تحدٍ كبير للبنتاجون، يدرك خبراء الدفاع الأمريكيون أن الحرب على وتيرتها الحالية تعد أقل الخيارات سوءا من بين بدائل مختلفة، ولا يمثل مقتل ما يزيد على نصف مليون شخص، وتشريد نصف الشعب السورى، واستمرار قصف المدنيين قضايا ذات قيمة للعسكريين الأمريكيين.
***
البدائل التقليدية ممثلة فى مساعدة ودعم (المعارضة السورية) قضية شديد التعقيد، وقليلة الفعالية، وقد أظهرت خبرة السنوات الخمس الماضية، وخبرة العام الأخير تحديدا صعوبة إسقاط هذه المعارضة لنظام الأسد. وعلى العكس من البنتاجون، تركز مخابرات أمريكا على دعم وتدريب قوى معارضة أثبتت فشلها فى مواجهة التحديات التى واجهتها، وتبقى هناك معضلة تصنيف المعارضة السورية المسلحة، التى تحدد المعارضة المعتدلة من المعارضة المتطرفة. وتعتقد السى أى إيه أن القضاء على داعش داخل سوريا مستحيل فى ظل وجود الأسد، إذ ترى أن ممارسات النظام سببت ظهور وتمدد تنظيم داعش، ولا سبيل للقضاء عليه فى ظل وجود نظام الأسد. البنتاجون أصبح أكثر برجماتية مع إدراكه أن الأولوية الآن فى الأزمة السورية ليست للحل الشامل، وإنما بالحسم العسكرى أمام داعش أولا عن طريق استهدافه بطريقة مباشرة أو دعم الأكراد فى الشمال السورى، ولم يعد يكترث كثيرا بقضية بقاء بشار الأسد من عدمه.
فى الوقت نفسه دفعت تطورات الأسابيع الأخيرة لورطة كبيرة للبنتاجون تمثلت فى ضرورة التنسيق العسكرى مع الجانب الروسى حتى لا تقع حوادث غير مقصودة ومكلفة. بالطبع لا يثق قادة البنتاجون فى الجانب الروسى، ولا يدعمون ما توصل إليه وزير الخارجية كيرى من تفاهمات مع نظيره الروسى لافروف فى الجزء المتعلق بالعمليات العسكرية. ويتردد قادة البنتاجون فى دعم فكرة عمليات مشتركة مع الجيش الروسى كونها محفوفة بالمخاطر السياسية والعسكرية، ولا يريدون تفعيل استخدام المركز المشترك لتبادل المعلومات، والذى نصت عليه تفاهمات وزارة الخارجية.
ورغم إدراك البنتاجون أن الخيارات المتاحة اليوم فى سوريا كلها ليست جيدة للجانب الأمريكى، فإنه يدعم استراتيجية مزدوجة تتضمن بديلين هجوميين. يتعلق أولهما بتطوير تسليح المعارضة السورية عن طريق حلفائها الخليجيين بأسلحة تسمح بتهدد سيطرة الطيران الروسى على ساحة القتال. والبديل الثانى يتمثل فى تقديم دعم كامل للتقدم الكردى والتقدم التركى فى الشمال السورى.
ولا يمثل البديلان تدخلا أمريكيا عسكريا حقيقيا، البديل العسكرى الأمريكى المباشر ليس مطروحا على مكتب أوباما البيضاوى، إلا أنه (تدخل عسكرى لا يتضمن إرسال قوات برية داخل سوريا) سيكون من أول الملفات، التى ستوليها هيلارى كلينتون أهمية خاصة حال وصولها البيت الأبيض. تؤمن كلينتون بضرورة تحييد سلاح الطيران السورى، وربما الروسى، وضرورة توفير مناطق آمنة للمدنيين.
***
فى النهاية يبقى أن المعضلة السورية بتعقيدها وتفاعلاتها يستحيل معها وجود حل عملى يرضى أغلب الأطراف المتنافسة دوليا وإقليميا وداخليا، حل الحسم العسكرى ما زال غائبا، حل إزاحة بشار أصبح من الماضى. وللأسف تغيب الحلول عن بعض المشكلات! ولنأمل ألا تكون سوريا قد وصلت لهذه الدرجة من التعقيد بحيث ينتفى أى حل لمشكلة لا يدفع ثمنها إلا الشعب السورى بدمائه.