تنشط فى الآونة الأخيرة فى نابلس «منظمة إرهابية» تضم عشرات المقاتلين المسلحين، ولا تنتمى إلى «حماس»، أو «فتح ــ كتائب شهداء الأقصى»، أو الجهاد الإسلامى. الأعضاء فيها، فى أغلبيتهم، شبان فلسطينيون، بعضهم انتمى سابقا لـ«فتح ــ التنظيم»، أو «حماس»، أو «الجهاد الإسلامى». وبعضهم أيضا أبناء لأشخاص فى الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية. وتُنسب إلى هذه المجموعة أغلبية عمليات إطلاق النار التى حدثت فى منطقة نابلس خلال الأسابيع الأخيرة، وتشكل أساسا حالة التوتر القائم فى الضفة الغربية. ففى شهر سبتمبر وحده، تم تسجيل رقم قياسى بأكثر من 34 عملية إطلاق نار فى الضفة الغربية ــ هو الأعلى منذ 10 أعوام. بعض العمليات تضمن إطلاق نار تجاه مستوطنات، وإطلاق نار على السيارات فى محاور الطرق، وإطلاق نار على قواعد ونقاط ارتكاز الجيش، وبالأساس الاشتباك المسلح مع قوات الجيش التى تنشط فى البلدات الفلسطينية.
الدوافع الأساسية وراء التنظيم هى التطورات التى حدثت فى الميدان ــ العمل الناشط للجيش و«الشاباك» فى إطار حملة «كاسر الأمواج» فى شمال الضفة الغربية؛ ضعف السلطة الفلسطينية وازدياد الصراعات الداخلية، تحضيرا لما بعد عباس. ولهذا يضاف ضعف قبضة أجهزة أمن السلطة الفلسطينية وانعدام الدافع لديها لمنع العمليات؛ الوضع الاقتصادى الصعب للشباب الفلسطينى الذى لا يعمل فى إسرائيل؛ الانتشار الواسع والوفرة فى وجود السلاح والذخيرة. المجموعة أطلقت على نفسها اسم «عرين الأسود»، وتبنت رموزا جديدة ــ ملابس سوداء، رمزا يتضمن بندقيتيْ Mــ16 تلتقيان فوق قبة الصخرة وأشرطة حمراء (إشارة إلى أن أسلحتهم غير موجهة تجاه أبناء شعبهم ــ على عكس الأجهزة). أما هدفها، بحسب بيانها ــ «المضى فى طريق الشهداء» ــ الاشتباك مع جنود الجيش الذين ينشطون داخل المدن والقرى الفلسطينية، والتشويش على روتين حياة المستوطنين، بالإضافة إلى استنهاض الشعب الفلسطينى لتنظيم احتجاجات شعبية واسعة.
المجموعة نشطة جدا فى وسائل التواصل الاجتماعى، بالأساس تقوم بحملات فى «التيك توك»، إلى جانب توثيق الاشتباكات ونشرها على شبكات التواصل مباشرة، وتطالب الشعب الفلسطينى بالتجند لخدمة الأقصى، بالإضافة إلى إعلان إضرابات وتظاهرات ضد السلطة. فمثلا، إعلان الإضراب العام، بعد العملية على حاجز مخيم شعفاط، دفع بمئات النشطاء فى شرقى القدس، بواسطة وسائل التواصل الاجتماعى، إلى مواجهات «عنيفة» فى الشارع، بالإضافة إلى الإضراب العام فى أغلبية الجامعات فى مناطق السلطة ووقف التجارة فى مدن فلسطينية. وعلى الرغم من أن المجموعة لا تنتمى إلى أيٍ من الفصائل أو الحركات، فإنها مزودة بأسلحة مهربة ومصنعة محليا، ويبدو أنها تلقت الأموال والسلاح من حماس.
أكثر من 10 نشطاء من أوساط «عرين الأسود» قُتلوا خلال اشتباكات مع قوات الجيش، بينهم محمود العزيزى، وهو ناشط فتحاوى بالأصل تحول إلى مستقل وكان القوة الدافعة إلى إقامة المجموعة برفقة إبراهيم النابلسى. تم اغتيال العزيزى فى 24 يوليو فى بيت عائلته. وبعدها تم اغتيال النابلسى أيضا، فتولى مصعب اشتية قيادة المجموعة، وبات مطلوبا أيضا للسلطة الفلسطينية، بعد حصوله على مساعدة مالية من «حماس». وفى 19 سبتمبر، قامت أجهزة أمن السلطة بإلقاء القبض عليه بتهمة حمل السلاح، وتهم ضريبية، بالإضافة إلى الحصول على أموال والضرر بأمن السلطة. وعلى الرغم من الاحتجاجات على الاعتقال، فإن السلطة لا تزال تسجن اشتية. رئيس السلطة محمود عباس، الذى لا يزال متمسكا برؤيته «سلطة واحدة، سلاح واحد وقانون واحد»، وجه تعليماته بتفكيك المجموعة، يبدو أنه من خلال الطريقة المعروفة بدمج الأعضاء داخل الأجهزة التابعة للسلطة. على الأقل 20 ناشطا فى المجموعة، أو أبناء عائلاتهم، معتقلون لدى أجهزة الأمن الفلسطينية، وتُبذل جهود لإقناعهم بترك المجموعة والحصول على وظائف فى السلطة، أو الأجهزة، بالإضافة إلى ضمان بحصانة من الاعتقال الإسرائيلى.
• • •
مجموعة «عرين الأسود» تشكل اتجاها ثوريا، شابا ومقاتلا، يعارض خط الرئيس عباس السياسى، وخصوصا التنسيق الأمنى مع إسرائيل والفساد فى السلطة الفلسطينية. فى المرحلة الحالية، تركز المجموعة على اشتباكها مع الجيش والمستوطنين، ولكنها يمكن أن تتحول إلى معارضة بارزة لقيادة السلطة. وللمجموعة تأييدها فى صفوف «فتح»، وبصورة خاصة فى صفوف المعارضين للرئيس عباس والمقربين منه ــ حسين الشيخ وماجد فرج. لذلك، من الصعب القول، بحسم، إن مجموعة «عرين الأسود» هى تنظيم فردى سيتفكك فى المستقبل. من الممكن أن تكون النبتة الأولى لسلسلة تنظيمات محلية لخلايا «إرهابية» مستقلة، لا تنتمى إلى أيٍ من الفصائل، وتنشط فى منطقة نابلس والخليل وشرقى القدس ــ هناك منذ الآن تنشط مجموعات من الشبان الفلسطينيين التى، بالإضافة إلى هدفها الحفاظ على الأقصى، تقوم بـ«أعمال عنف» داخل الأحياء العربية ــ كما حدث خلال عيد العرش.
من المريح لإسرائيل العمل مقابل السلطة الفلسطينية بشكلها الحالى، ومن ضمنه الانقسام الداخلى الفلسطينى الذى يساعد فى الاستمرار فى هذه المعادلة، وذلك لأن أغلبية ثقل المسئولية عن حياة السكان الفلسطينيين لا تقع على أكتافها. وإلى جانب ذلك، هناك حرية عمل عملياتية ــ أمنية إسرائيلية داخل مناطق السلطة الفلسطينية. المجتمع الإسرائيلى، فى معظمه، لا يزال يتمسك بالرؤية القائلة إنه لا حاجة إلى مسار سياسى من أجل الوصول إلى اتفاق، وإننا «سنعيش على حد السيف». الجمهور الفلسطينى أيضا يعيش فى واقع يبدو أنه لا مخرج له، ولا طريقا مؤكدة لمستقبل قومى أفضل، ولا يوجد قيادة يمكن الاعتماد عليها. لذلك، حدث الفراغ الذى تنشط داخله المجموعات الشبابية الفلسطينية المقاتلة، التى تنجح فى استقطاب عدد أعلى من الشباب، مبرر وجودهم هو قتال الاحتلال، عبر المحاولات للدفع قدما باحتجاجات جماعية. الثمن الذى تحصده هذه المجموعات لا يتوقف فقط على الضرر بالإسرائيليين والجنود، إنما تُضعف السلطة أيضا وتزعزع قدرتها على السيطرة وفرض القانون والنظام والاستقرار فى مناطقها.
وزير الدفاع بنى غانتس قال فى مقابلة مع موقع «واينت» يوم 13 أكتوبر، بعد المواجهات التى اندلعت فى شرقى القدس، إن «الحديث يدور حول فترة حساسة جدا»، لكنه أوضح: لم نفقد السيطرة... نستخدم جميع الأدوات الموجودة لدينا ونعززها كلما أمكن. نحن نقوم بخطوات هجومية فى نابلس وجنين وكل مكان آخر يحتاج إلى ذلك». وأضاف: «فى نهاية المطاف، سنجد هؤلاء الإرهابيين. الحديث يدور عن مجموعة من 30 شخصا، علينا أن نعرف كيف نصيبهم وسنصيبهم. هذه المجموعة ستصل إلى نهايتها بطرق مختلفة، وآمل أن يحدث هذا بأسرع وقت ممكن»، هذا بالإضافة إلى سحب تصاريح الدخول إلى إسرائيل من 164 قريبا عائليا من مجموعة «عرين الأسود»، بحسب منسق أعمال الحكومة فى الضفة.
• • •
فى إسرائيل، هناك مَن يرى أن الوقت حان لـ«سور واقٍ 2». لكن السؤال: ماذا سيكون الهدف من هكذا حملة، إن لم يكن لإسرائيل أى هدف سياسى تساعد الحملة على تحقيقه؟ ما معنى دعم فكرة «الدولتين» التى تحدث عنها رئيس الحكومة يائير لبيد فوق منصة الأمم المتحدة، من دون أعمال تعكس هذه المقولة؟ فلا يمكن إخضاع الطموحات الإثنية والدينية والقومية بقوة الذراع فقط. حتى الآن، الإنجاز الوحيد لإسرائيل هو عدم وجود الدافع لدى المجتمع الفلسطينى بالتجند لمواجهة شعبية «عنيفة»، متوترة، وواسعة. الجمهور الفلسطينى تعب من قيادة السلطة ويئس منها، وحتى لو ما زال يرى أهمية وإنجازا وطنيا فى وجود السلطة ومؤسساتها بحد ذاته، لكنه يريد التغيير الحقيقى فى قيادتها وطريقة عملها.
«عرين الأسود» هى إشارة إضافية إلى إسرائيل بأنها لن تستطيع «احتواء» المناطق الفلسطينية إلى الأبد، ومرحلة إضافية فى مسار ضعف السلطة الفلسطينية فى يوم ما بعد عباس. عدة سيناريوهات يمكن أن تنمو فى الوضع الحالى: 1) مبادرة من الأسفل تحصل على تأييد الجمهور الفلسطينى لتغيير القيادة وقواعد اللعبة الحالية؛ 2) سيطرة «حماس» على التنظيم وتعزيز «الإرهاب» والفوضى فى الضفة الغربية؛ 3) ضغوط دولية على إسرائيل من أجل السماح بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية للسلطة الفلسطينية، كطريق وحيدة للحفاظ على السلطة.
حملة عسكرية من نوع «السور الواقى» ستسرع مسار ضعف السلطة، وتحولها إلى عنوان غير صالح لترتيبات سياسية، يضر بالغطاء الذى تنشط من خلاله أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، ويؤدى إلى نمو مجموعات شبابية فلسطينية مستعدة للتضحية بنفسها فى الصراع مع إسرائيل، ومن شأنه أن يؤدى إلى أحد السيناريوهات التى تم ذكرها سابقا. هل إسرائيل ــ الجمهور والقيادة، ومن دون علاقة بالانتماء الحزبي ــ جاهزة لذلك، أو تعبر عن رأيها فى ذلك؟
أودى ديكل
باحث فى معهد دراسات الأمن القومى
مباط عال
مؤسسة الدراسات الفلسطينية