نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتبة «إنعام كجه جى» جاء فيه: فى مؤتمر صحفى جرى فى مدريد، نقلته قناة إخبارية، ركز المصور على صف من ثلاث صحفيات جالسات فى المقدمة، منهمكات فى التقاط الأسئلة والأجوبة. لم تكن مدة اللقطة تسمح بالتدقيق فى ملامحهن أو طريقة جلستهن. لكن ما يلفت النظر أنهن كن ينقلن وقائع المؤتمر بالكتابة السريعة فى دفاترهن. نعم، ما زال هناك صحفى يُخلص للقلم والورق ولا يحمل فى جيبه هاتفا أو جهازا للتسجيل.
أنا من الجيل المخضرم الذى عاش زمن الدفاتر الصغيرة وأقلام الرصاص أو الحبر الجاف. وحين تخدمنى المصادفة وتمنحنى خبرا وأنا فى يوم استراحة، من دون دفتر الملاحظات، فإن أى ورقة فى حقيبة اليد يمكن أن تفى بالغرض: غلاف رسالة أو قائمة مشتريات أو حتى قفا وصفة طبية. وما زلت أذكر ذلك الزميل الذى اقتطع صكا من دفتر شيكاته لكى يكتب على ظهره رءوس أقلام لمقابلة سريعة مع وزير صادفه فى مطعم. كنا فى عصر التدوين الورقى. وبعد ذلك ذهبت الدفاتر إلى الرفوف العالية وجاءت أجهزة التسجيل اليابانية الحديثة. وقد كانت فى البداية كبيرة بحجم كتاب، تحتاج إلى حقيبة خاصة. ثم صارت بحجم الكف، ثم بحجم علبة الكبريت، قبل أن تأتى الهواتف الذكية التى تُسجل وتُصور وتحفظ المواعيد وتنبهك لتستيقظ وتنبئك بحالة الطقس... وعند الحاجة تغازل بالصوت والصورة.
ذات يوم من أوائل ثمانينيات القرن الماضى، أثناء فاعليات موسم أصيلة الثقافى فى المغرب، لاحظ زميلى طلحة جبريل أننى أنسحب بعد الندوات وأصعد إلى غرفتى فى الفندق لأبعث رسائلى الصحافية بالهاتف. وكان هناك على الطرف الآخر من الخط زميل يكتب باليد ما أمليه عليه. وبما أن طلحة كان يراسل صحيفة عربية متطورة فى لندن، فقد سخر منى وسألنى: «ألا تملك مجلتكم جهاز فاكسيميلى؟». وللحقيقة والتاريخ فإننى لم أفهم عن أى شىء يتحدث. لكن الإنسان يتعلم من المهد إلى اللحد.
وتمر السنون وأتعرف على الفاكس، بل يصبح من ضرورات المكتب. وكم شعرت بالأسف للساعات الطويلة التى كانت فيها زميلة لى تتلقى رسائل باريس كتابة عبر الهاتف. وهى الساعات التى ضاعت، أيضا، من أديب سورى من زملائنا، كبير سنا ومقاما، حين اضطرته الظروف لأن يعمل فى الصحافة المهاجرة ويجلس ليتلقى مكالمات المراسل من واشنطن ويدونها على صحائف الورق بيد تتناوب القلم والسيجارة.
ثم جاءت أعجوبة الأعاجيب. الحاسوب المنزلى المزود بالإنترنت. اشتريت واحدا وبدأت أطقطق عليه. وكان الولدان فى سن المراهقة، عفريتين من عفاريت النت، يمران من وراء ظهرى ويتبادلان نظرات الإشفاق على الأم التى تريد أن تتعلم، فى آخر العمر، التعامل مع الكومبيوتر. ألا يكفيها أن تدير غسالة الثياب والريموت كنترول وتوقيت ساعة الفرن؟ كلا، لا يكفى. والصحفيات اليوم لا يقبعن وراء الحواسيب فحسب بل يرتدين السترات الواقية من الرصاص وينقلن وقائع النزاعات الدولية. وبفضل تزايد أعدادهن فقد قلبن المعادلة: للمراسلة الحربية مثل حظ مراسلين اثنين من اهتمام جمهور التلفزيون.