فى محاولته اليائسة لإثناء المصوتين البريطانيين عن التصويت فى صالح الانسحاب البريطانى من الاتحاد الأوروبى، وجه الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما خطابا للبريطانيين فى الثانى والعشرين من أبريل من العام 2016 تحدث خلاله عن أهمية استمرار المملكة المتحدة عضوا فى الاتحاد الأوروبى، وأن بقاءها يعظم من تأثيرها كقوة عظمى، وشريك للتجارة مع الولايات المتحدة الأمريكية... لكن أبرز ما استوقفنى فى خطابه للشباب الإنجليزى هو أن العالم ينعم اليوم بحالة من الاستقرار والسلام هى الأطول منذ عقود، وأن هذا القدر من السلام العالمى الذى لم يعرفه الآباء الأجداد ممن طحنتهم رحى الحروب العالمية المتتالية كان له الفضل فى تحقيق التقدم العلمى والتقنى كما لم يحدث من قبل، دونما إشارة صريحة إلى اضطرار القوى العسكرية الكبرى استبدال الحروب الشاملة بحروب إقليمية وأهلية بؤرتها فى الغالب بلاد العرب، حتى تستمر صناعة السلاح غطاء فعليا للإصدار النقدى، ومصدرا للثروة.
تذكرت هذا الخطاب بينما أتابع منذ أيام قليلة خطابا آخر لرئيسة الوزراء البريطانية «تريزا ماى» أمام برلمان بلادها، تؤكد فيه على أن خطة الخروج من الاتحاد الأوروبى والمعروفة عالميا باسم brexit تواجه تحديات كبيرة، وأنها لو لم تنفذ خطتها المرسومة للوصول إلى اتفاق مع بروكسل، فلن يكون هناك خروج! على الفور عرضت شاشات الأخبار تراجعا لحظيا محموما للجنيه الاسترلينى مقابل الدولار الأمريكى فى بورصات العملات، ونشطت التعقيبات المتخصصة التى وصفت الاتحاد الأوروبى بالسجن الذى لن يكون الخروج منه سهلا... وانتشرت أنباء عن حتمية استقالة عدد من الوزراء، وأضيفت إلى مخاوف حروب ترامب التجارية مع الصين، وتراجع معدلات النمو فى الاتحاد الأوروبى، وتفاقم الديون، والسقوط الوشيك للاقتصاد الإيطالى... مخاوف جديدة من تعثر عملية الانسحاب من الاتحاد الأوروبى بصورة لا تجعلها مقلقة للشعب الإنجليزى وحده، وإنما يمتد خيط القلق ليخنق شعوب ثمان وعشرين دولة أوروبية، ومنها إلى مختلف دول العالم حال تعثر بقاء الاتحاد الأوروبى قائما، وكذلك تعذر تفكيكه وخروج الدول من عضويته!
***
تلك الأزمة تهدد بشكل صريح وضعية السلام الشامل والاستقرار العالمى الذى تغنى به «أوباما»، وتوضح للعالم لماذا خالف الرئيس الأمريكى حينها الأعراف الدولية، وتدخل فى عملية تصويت حرجة تجرى فى دولة عظمى، إذ ربما أفادت التقارير الاستخباراتية الأمريكية بأن هذا الصدع فى الاتحاد الأوروبى نذير انهيار للنظام العالمى الراهن، وأن تبعات ذلك الانهيار لن تمس بريطانيا أو أوروبا خاصة.
النمو الاقتصادى الأوروبى خلال السنوات الخمس الماضية والذى تمخض عن خلق 9.5 مليون فرصة عمل، يمر بأزمة منتصف العمر فى ظل المخاطر المختلفة التى سبق ذكرها وفى مقدمتها أزمة الدين فى إيطاليا وعجز الموازنة، فى ظل حكومة شعبوية ربما تؤدى سياساتها الحمائية والاجتماعية إلى تفاقم عجز الموازنة، وتعاظم أزمة الاقتصاد الإيطالى الكبير الذى هو أكبر من أن يسقط دون تبعات إقليمية وعالمية خطيرة. استمرار الحكومة الإيطالية فى التمويل بالعجز، والتوسع فى الاقتراض لسد الفجوة التمويلية بمخاطر أعلى، ومن ثم بمعدلات فائدة مرتفعة وغير قابلة للاستدامة، يقول «هلودر شملدنج» كبير الاقتصاديين ببنك برينبيرج فى لندن، أن إيطاليا هى الخطر الأكبر الذى يتهدد منطقة اليورو حاليا.
***
المملكة المتحدة هى الأخرى مرشحة للالتحاق بإيطاليا فى ذيل قائمة النمو الاقتصادى الأوروبى العام القادم، ثم للفشل فى النمو الصحى خارج الاتحاد الأوروبى فى العام التالى، وفقا لتنبؤات المفوضية الأوروبية الصادرة أخيرا، علما بأن مارس 2019 هو التاريخ المضروب آنفا للتخارج الإنجليزى من الاتحاد الأوروبى، وأن هذا الفشل المتوقع لن يبطله نجاح «تريزا ماى» فى التوصل إلى اتفاق سلس مع بروكسل لتحقيق خروج بريطانى آمن من هذا السجن الأوروبى قبل 29 مارس المقبل!. تلك التنبؤات تتفق مع تنبؤات صندوق النقد الدولى والتى حذرت من قريب من التبعات السلبية لكل سيناريوهات الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى، لكنها اعتبرت الخروج بغير اتفاق noــdeal brexit هو السيناريو الأبشع بين مختلف البدائل المحتملة.
التباطؤ الاقتصادى الذى شهدته دول اليورو التسعة عشر خلال الربع الأخير الممتد من يوليو إلى سبتمبر 2018 والذى تراجع على أثره معدل النمو الفصلى إلى النصف ليسجل 0.2% فقط، مازال البعض يرونه طبيعيا بعد توسع قوى نهاية العام الماضى بلغ نحو 0.7%، مشفوع بنمو حركة التجارة، تلك التى باتت تتهددها مخاطر عدة أبرزها حروب التجارة العالمية. لكن تصاعد المخاوف خلال الأسبوع الماضى تحديدا مردها تباطؤ الاقتصاد الألمانى (الأكبر دعما للعملة الأوروبية الموحدة) بنسبة 0.2% على خلفية تراجع الصادرات، وتأخر كبار مصنعى السيارات فى ألمانيا مثل «دايملر» و«فولكس فاجن» عن الحصول على شهادات التوافق البيئى الجديدة الخاصة بالانبعاثات. من المتوقع كذلك تراجع معدلات النمو فى كل من فرنسا وإيطاليا من 2.1% هذا العام إلى نحو 1.9% و 1.7% عامى 2019 و 2020 على التوالى، بعد دخول المنطقة كلها مرحلة جديدة من التباطؤ الاقتصادى.
وإذ تحدثت كثيرا عن حالة عدم اليقين التى أحدثتها السياسات التجارية الأمريكية فى الاقتصاد العالمى، فلا أمل من تكرار حقيقة مفادها أن مزيدا من عدم اليقين يعنى مزيدا من المخاطر، الأمر الذى أثر بالفعل سلبا على الطلب العالمى على السلع تامة الصنع، وأحدث ضررا بالغا بقرارات الاستثمار التى عادة ما تتأثر بفرض رسوم حمائية مانعة أو ضارة بتجارة سلع بعينها، ومن ثم بقرارات الاستثمار المتصلة بالتصنيع والتخزين والشحن والنقل والتأمين...الخاصة بإنتاج وتداول تلك السلع.
***
اتفقت المفوضية الأوروبية مع صندوق النقد الدولى على تشخيص أبرز خطرين على الاقتصاد الأوروبى خلال الفترة القصيرة القادمة. كلاهما اتفق على ضرورة الإصلاح المالى فى إيطاليا لاحتواء عجز الموازنة بسياسات ضريبية مختلفة، وبقرارات مختلفة للإنفاق العام. كذلك اتفقا على مخاطر البريكست بغير اتفاق مسبق بين حكومة تريزا ماى والمفوضية الأوروبية. واتفقت العديد من الآراء الاقتصادية المتخصصة على إضافة الحروب التجارية، وتفاقم الديون إلى هذين الخطرين لدى الحديث عن الأوجاع الراهنة للاقتصاد العالمى. وتظل الحاجة إلى آلية مستقرة لتصريف مخزون السلاح العالمى الفيل الذى ينكره أو يتغافل عنه الكثيرون فى الغرفة المغلقة الصغيرة. وبدون الاستقرار بين الدول الكبار على تلك الآلية، بعد أن أوشكت منطقة الشرق الأوسط (التى كانت لفترة طويلة بؤرة الصراع المستهلكة للسلاح) على التآكل الذاتى، واستنفاد أسباب الانفجار، مع تزايد النعرة الوطنية الشعوبية فى كثير من الدول المتقدمة القائدة لمسار التنمية... فإن مخاطر الدخول فى حرب عالمية شاملة تظل قائمة ومخيفة، شرعنا نسمع دبيبها لأول مرة فى خطابات رؤساء دول كبرى يتسمون بالرشد النسبى، ومنهم الرئيس الفرنسى «ماكرون» الذى حذر أوروبا من تصاعد النعرة الشعوبية، ومن كون تهديد الولايات المتحدة لأوروبا بات لا يقل خطورة عن تهديد روسيا والصين! فيا رب سلم.