لم يعد خافيًا أن كثيرًا من أقطار الوطن العربى قد أصبحت تعانى من وجود أخطار سياسية واقتصادية وأمنية مستفحلة تهدد استقرارها إن لم يكن وجودها. وشيئًا فشيئًا أصبحت تلك الأخطار القطرية تكوّن مجتمعة خطرًا عربيًا قوميًا واحدًا متشابكًا ووجوديًا بكل ما يحمل من مآسٍ وانتكاسات وأخطار مستقبلية للوطن العربى كله.
مما يضاعف من حجم وانتشار وجديّة تلك الأخطار المحلية والمشتركة هو ضلوع بعض القوى الخارجية فى خلقها وفى خطوات استمراريتها وفى كثرة وتنوع الأقنعة التى تخفيها.
وما عادت الصورة تهدد الواقع العربى فقط وإنما تهدد أيضًا الأفكار والمبادئ والقيم والالتزمات، وبالتالى أوجدت فراغات فى المشهد العربى برمّته.
مواجهة المشهد المحلى يمكن تركه للقوى المحلية لتتعامل مع خصوصياته ومحدداته الكثيرة، لكن ما نعتقد أنه يجب أن يعنى الجميع، لأنه سيؤثر على الجميع طال الزمن أو قصر، فهو المشهد العربى العام. ذلك أن أى فشل فى مواجهته من قبل الجهات المسئولة عنه سيجعل المواجهات الوطنية المحلية بالغة الصعوبة والتكلفة، إن لم تكن من المستحيلات.
بالنسبة لتلك المواجهة الجمعية يجب أن يكون الحديث صريحًا إلى أبعد الحدود، إذ إن خطر غيابها أو كثرة تعثّرها أو ضعف جهات القيام بها سيكون كارثيا بكل معنى الكلمة. وحتى لا نضيع فى المتاهات والعموميات فإننا نعتقد أن كثيرا من اللوم يقع على عاتق المؤسسات الثلاث التالية: مؤسسة مؤتمرات القمة العربية والجامعة العربية ومنظمة التعاون العربى الإسلامى. ذلك أنها جميعًا تعاملت مع تلك الأخطار الجمعية المشتركة بأساليب التكتيك المحدود المؤقت بدلًا من التعامل بأساليب الاستراتيجية الشاملة البعيدة المدى.
للتوضيح فإن الاستراتيجية تعنى مجموعة من القرارات لتحديد الأهداف، خصوصًا الطويلة المدى، وطرق مسارها لتحقيقها، بينما التكتيك هو خطوات فرعية ملموسة موجهة نحو أهداف أصغر خلال إطار زمنى أقصر. وهى فى الواقع تعاريف حداثية لكلمات قديمة يونانية تشير إلى القيادة العسكرية العليا التى تتخذ القرارات الكبرى الاستراتيجية من جهة، والقيادات الأدنى التى تنفّذ من خلال خطوات تكتيكية من جهة أخرى.
وفى الواقع العربى، خصوصًا خلال الثلاثين سنة الماضية واجهت تلك المؤسسات الثلاث فواجع الأوضاع العربية المتنامية من خلال قرارات تكتيكية مجزّأة فشلت فشلًا ذريعًا فى علاج أى من تلك الفواجع، سواء على المستوى الوطنى أو على المستوى العربى القومى المشترك. فلا الأسباب عولجت ولا مصادر الأخطار، خصوصًا الخارجية منها، جوبهت. والنتيجة التى حصدناها لمثل تلك التعاملات التكتيكية المحدودة المؤقتة هى مشهد الجحيم الذى نراه أمامنا اليوم فى أجزاء كثيرة من وطننا العربى.
من هنا نرى أنه قد أضحى من الضرورى أن تبادر تلك المؤسسات الثلاث إلى تكوين مجموعة من المفكرين السياسيين والناشطين من ذوى الخبرة فى الحياة العربية العامة، سواء الحزبية أو النقابية أو المهنية أو الحقوقية، ليضعوا استراتيجية أو استراتيجيات شاملة ليستفيد منها قادة تلك المؤسسات فى تعاملهم مع الأوضاع الحالية ومع ما قد يستجد فى المستقبل القريب، خصوصا بعد أن أصبحت لقوى الخارج الاستعمارية - الصهيونية أجنداتها لاستمرار الأوضاع العربية الحالية، ومن ثم لانتقالها إلى مشاريع تمزّق وتضعف الوجود العربى وتعلى وتمكن تلك القوى الخارجية من قيادة المنطقة العربية برمتها والهيمنة على ثرواتها وكل محاولاتها النهضوية المستقبلية.
سيكتشف القائمون على المؤسسات العربية الثلاث من خلال تفاصيل مقدمة الاستراتيجية وتحليل مواجهاتها المستقبلية أن الأخطار التى تواجهها هذه الأمة، حكومات ومجتمعات، تقترب بالفعل من مستوى الكوارث التاريخية الكبرى التى قضت على وجود إمبراطوريات وشعوب كانت ملء العين والبصر.
إننا نعتقد بأنه ما زالت هناك إمكانيات كبيرة فى الجسمين العربى والإسلامى، إن أُحسن تنظيمها وتجييشها وتنسيقها فى تيار مشترك، ستكون قادرة على حمل المسئوليات والأهداف والأفعال التى ستقترحها الاستراتيجية المشتركة. لكن المؤامرات كثيرة وحركة الزمن ليست فى صالح سياسة التفرّج والانتظار التكتيكية الحالية.
ليس الهدف هو إضافة وثيقة نظرية جديدة للوثائق الكثيرة السابقة، وإنما لتكون وثيقة الاستراتيجية المقترحة طريقا إلى ممارسة الفعل المتناسق المتضامن فى الواقعين العربى والإسلامى.