صباح شتوي عادي - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 5:47 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صباح شتوي عادي

نشر فى : الخميس 20 ديسمبر 2018 - 10:40 م | آخر تحديث : الخميس 20 ديسمبر 2018 - 10:40 م

ها هو الشتاء يدق على الأبواب أول دَقَة فتنفرج السحب الناصعة وتجود بزخات خفيفة لكنها تروي الزراعات الظامئة وتغسل الشوارع المتربة وتعيد طلاء الأبنية بلون بلوري شفاف، تُقرّب المظلات المُشَرّعة بين العاشقين وتُلْغِي المسافات وتصدُ الفضول فيختلس كل منهم ساعة في قرب الحبيب، ينحشر تلاميذ المدارس في سيارات ربع نقل تحملهم لبضعة أمتار ثم يتساقطون منها كما يتساقط الرُطَب من نخلة هز جذعَها الهواءُ.. واحد اثنان ثلاثة عشرون تلميذ يقفزون ويكملون الطريق سيرا على الأقدام، تتكوم قطة رمادية في استكانة تامة بجوار أحد محلات قطع الغيار فلا يهشها البائع كعادته كل صباح.. هي ترتجف وهو أيضا وهذا سبب معقول جدا للتعاطف ولعله حتى يلقي إليها ببعض الفتات، سيبدأ بعد قليل على وسائل التواصل الاجتماعي السجال السنوي بين محبي الشتاء ومحبي الصيف لا قطع الله للمصريين عادة وكأن تعاقب الفصول يخضع لأهواء البشر.. أما هذه السيدة الريفية الطيبة فإن أنت سألتها السؤال الساذج إياه : قولي لي يا فلانة هل تفضلين الصيف أم الشتاء؟ فسوف تفحمك بردها بالغ البساطة والتلقائية : كلها أيام ربنا! ، تغرق الشوارع في شبر مياه بالمعنى الحرفي للكلمة.. وتتحول حركة المَسّاحات إلى ما يشبه عصا المايسترو تضبط أداء العازفين لسيمفونية المطر، الله الله ما كل هذه الرومانسية؟ بعض الرومانسية لا يضر.. أحيانا نحتاج إلى هدنة من الواقع.. من فرط ما يحاصرنا من حروب بتنا لا نتحدث عن الهدنة إلا بين متحاربين مع أنه يوجد الكثير من موجبات الهدنة في حياتنا وإن لم تكن ثمة حروب.
***

راحت مدام هدى تراقب بعض تفاصيل المشهد من شرفتها المطلة على ميدان رمسيس وقد انتابها شعور بالرضا عن نفسها لا بأس به أبدا، هذا الشعور لا تتفهمه إلا امرأة ولا تسعد به إلا النساء فعملية إنقاذ الغسيل قبل هطول المطر إنجاز له قيمته لو تعلمون وقد نفذت صاحبتنا لتوها هذه العملية بنجاح. نظرَت مدام هدى خلفها إلى الغسيل نصف الجاف وهو منثور فوق المقاعد والأريكة وعلى المشجب وفي كل مكان وثمّنت النصر الكبير الذي تحقق، كانت الأرصاد قد تنبأت بهطول المطر عند منتصف النهار لكن صاحبتنا أخذت حذرها قبل الموعد وها هي الملابس والمناشف والأغطية تنجو بفضل حكمتها، الحذر يمنع القدر أحيانا.. هذا كلام كبير لا يناسب تفاهة الموقف لكن من قال إنه موقف تافه؟ إننا نحن من نمنح الأشياء قيمتها. اختلطتْ رائحة الغسيل النديّة برائحة المنظف النفاذة وذكّرها ذلك بمشهد طريف في فيلم "هذا هو الحب" ليحيي شاهين ولبنى عبد العزيز، في هذا المشهد ذهبَتْ ماري منيب تخطب لابنها ولم تكن قد أخبرت أهل العروس بقدومها حتى إذا فاجأ حضورها معاونة المنزل الصغيرة راحت المسكينة تلملم الغسيل المبعثر في الصالون بحركات هستيرية مضحكة لتُفسِح للضيفة مكانا تجلس فيه، ثمة مصادر خفية للبهجة.
***
الوقت يجري فالشتاء نهاره قصير ومازالت أمام هدى مهام جسام، للحظات أوشكت أن تتعاطف مع ذوق ابنتها في الطعام، نعم أوشكت لكن غريزة الأم تغلبت عليها وجعلتها تتصرف كالعادة باعتبارها أدرى بالمصلحة. شمّرت صاحبتنا عن أكمامها وراحت تغمر السبانخ في حساء اللحم الفائر وفي نيتها أن "تزغط" بها وحيدتها بعد عودتها من المدرسة. استعدت هدى للرد على ابنتها ذات التسعة أعوام حين تقول لها كالمعتاد "يا ماما من فضلك لا أحب السبانخ" وجهّزت الرد المفحم إياه "احمدي ربنا فهناك من لا يجد ما يأكله"، وجهزت ردا آخر هو " تعاملي معها كما تتعاملين مع الدواء .. مر إنما يشفي" ، لكن هذا الرد لا تستخدمه صاحبتنا إلا عند الضرورة فهو يتضمن تسليما جزئيا بمنطق ابنتها. ابتسمَت في سرها لأنها هي أيضا لا تحب السبانخ لكن من قال إنها في هذه النقطة بالذات تقدم مثلا يُحتذى! من هذه البدايات الأولى نصادر حق أولادنا في الاختيار وندس في أمعائهم طعاما لا يعجبهم وسوف يظل الجدل بين المصلحة والمتعة مستمرا للأبد، عموما غدا تكبر ابنتها وعندها يكون لكل حادث حديث .
***
نفخت هدى في كفيها فبرد طوبة كما يقولون يخلّي الشابة كركوبة وهي على مشارف الأربعين. سحبت الموبايل وأخذت تتلهى به، كتبت ابنتها على صفحتها تسأل " لماذا يستبد بِنَا الأهل؟"، مممم، ماذا تقصد هذه البنت بالضبط؟ هل تقصد السبانخ بالتحديد أم تراها تقصد أمورا أعمق من ذلك بكثير؟ ، لكن من أدرى ابنتها أصلا أن غداء اليوم سبانخ؟ لعلها تتحلى بفطنة أمها التي أنقذت بها الغسيل هذا الصباح من غرق أكيد، عموما هذا الجيل لا يعلم بحاله إلا الله.. يمشي في حياته بالمقلوب فيخفي أسراره عن الأهل وينشرها أمام الجميع على الفيسبوك !
***
جرس الباب يدق دون توقف، هذه إذن نجوى فتلك هي عادتها تضع يدها على الجرس ولا تتركه، أهلا أهلا قالتها مرحبة، لكن قبل أن تدلف الابنة إلى الداخل أخذت واجمة نَفَسا من الهواء المشبع برائحة السبانخ والغسيل النظيف. اشتد سقوط المطر في الخارج وعلا صوته، توالت زخاته وتحولت إلى سياط تضرب كل شيء ، اصطخب الشارع أكثر وفقدت سيمفونية الصباح رومانسيتها .

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات