إذا كان من رذيلة تميز بامتياز العصر الذى نعيشه فهى رذيلة الكذب الذى أصبح مرض العصر بصورة وبائية قاتلة، والذى لا يبدو أن له علاجا فى الأفق القريب.
وقد أصبح لهذه الرذيلة جماعات ودول ومراكز إعلام ومؤسسات بحوث تدعم بعضها البعض وتغطى مساوئ بعضها البعض، وتطوع الأزلام لنشرها على نطاق واسع جنونى بواسطة شبكات التواصل الاجتماعى التى لا تترك أحدا إلا وتغويه وتنهكه لتصديق ذلك الكذب.
وإذا كان لا بد من تسمية جهة قيادة لذلك التوجه فى عالمنا فإن الأصابع تتجه نحو الولايات المتحدة الأمريكية، إذ أصبحت مؤخرا أفضل من يمثل ظاهرة الكذب بكل ألوانها ومستوياتها وألاعيبها. فهذه الدولة، منذ الحرب العالمية الثانية، وهى تمارس الكذب لتبرر كل صراعاتها وحروبها وابتزازاتها وتلاعبها باقتصاد العالم واستقراره المالى النقدى.
فلقد خاضت حروب فيتنام وكوريا وكمبوديا وهندوراس، وخططت وأشرفت على قتل مئات الألوف فى إندونيسيا، وغزت ودمرت أفغانستان والعراق، وتآمرت على سوريا وليبيا والسودان واليمن، وتدخلت فى شئون أميركا الجنوبية على نطاق واسع ودمرت كل محاولات دولها للخروج من تحت عباءتها، وأدخلت مؤخرا العالم فى جحيم الحرب الأوكرانية، وافتعلت الحروب الاقتصادية مع الصين وروسيا وكثير غيرهما... فعلت كل ذلك، وغيره كثير، تحت أغطية ومبررات من الكذب والادعاءات وإصباغ الفضيلة التى لا توجد إلا فى شعاراتها المخادعة، تارة باسم حماية العالم الحر، وتارة باسم حماية الديموقراطية وحقوق الإنسان وحماية الأقليات والمحافظة على السّلم الأهلى والعالمى، بينما الجميع كان يعرف أنها كانت حروب نهب واستعمار.
لم تعتذر قط عمّا قامت به من كل تلك الأفعال التى قادت إلى موت الملايين وإلى حرق أراضى الغير وإلى تدمير بنيتها التحتية وأنظمتها السياسية والأمنية والاقتصادية. بل بالعكس، كانت ولازالت تنصب نفسها الدولة المسئولة عن أمن ونظام هذا العالم، وبالتالى يحق لها أن تكون القاضى والمحامى والسجّان والمعدم، بينما هى فى كثير من الأحيان الجانى الذى يجب أن يحاكم ويحاسب.
نضطر أن نذكّر بكل ذلك، بالرغم من احترامنا الشديد للشعب الأمريكى الطيب المسالم المحب للآخرين، لنقول بأن المسئول الأول هو نظام الحكم الأمريكى والدولة العميقة التى تملكه وتحركه وتوظّفه ليفعل كل ذلك باسم أمريكا، وأمريكا التى نعرفها جيدا براء من كل ذلك، وإنما هى أيضا ضحية من ضحايا نظام الحكم ذاك ودولته العميقة.
ونبرز كل ذلك لنقول بأن تلك القائمة من الممارسات الأمريكية المجنونة واللاأخلاقية والمستهترة بكل القيم الإنسانية والحقوقية والمتدثّرة بألف كذبة وكذبة، تلك القائمة قد وصلت خلال الشهرين الماضيين إلى أقبح صورها وأكثرها إجراما وتوحشا فى المشهد الفلسطينى الحزين، يفضحها ويعرّيها مشهد الألوف من أطفال فلسطين ونساء فلسطين وكبار سن فلسطين، المدنيين العزّل، المستنجدين يطلبون الرحمة، بينما يقوم نظام الحكم فى أمريكا بإمداد المجرم الصهيونى، جيشا ومستوطنين، بالسلاح والعتاد والمال والدعم الأعمى السياسى والمعنوى فى كل محفل من محافل العالم.
وهذا الدعم كله يتم تحت عباءة الكذب الأمريكى الشهير. فهى تدّعى أنها ضد موت السكان المدنيين وضد تجويع ملايين الفلسطينيين، وضد تدمير المستشفيات والمدارس والمساجد، وضد إلقاء القنابل العشوائية لتدمير مئات المبانى على رءوس سكانها... إنها ضد كل ذلك، وهى تحاول إقناع الكيان الصهيونى بعدم ممارسة كل ذلك... لكنها لا ترى تعارضا بين إمداد الكيان بكل ما يسمح له بارتكاب جرائمه، وبين منع العالم من إيقاف الحرب.
ما على من يريد أن يعرف طبيعة الكذب المتأصّلة فى نظام الحكم الأمريكى إلا أن يقارن بين ما تقوله وتفعله وتعد به لتطمين الكيان الصهيونى، وبين الدروس والتهديدات والفهلوانية التى تمارسها تجاه من يتجرأ لمساعدة الشعب الفلسطينى المغلوب على أمره وتجاه أى محاولة دولية لإيقاف الحرب الإجرامية المجنونة فى غزة.
كنا نعرف بأن كتب العالم ووسائل المعرفة فيه قد كشفت منذ زمن طويل ترسخ رذيلة الكذب فى النظام السياسى والأمنى الأمريكى وسمّت النظام نظاما كذابا. لكننا الآن نثق فى العدالة الإلهية بأن هذا النظام سيكتب عند الله أيضا نظاما كذابا، وسيواجه فى المستقبل، طال الزمن أو قصر، عدالة الأرض وعدالة السماء. ويا ويل أميركا عندما يتمكن العالم كله منها، بمباركة من عدالة السماء.