لاقتصاديون يعرفون قيمة الاتجاه أو «الترند» (باللغة الإنجليزية trend)، فهو أحد أهم عناصر أية سلسلة زمنية، تلك التى تتكوّن من مشاهدات أو قراءات مختلفة للمتغير عبر الزمن. للتبسيط على غير المختصين، إذا كان لديك سجل بأسعار سلعة ما (مثل السكر) عبر فترة زمنية، وكان لديك قراءة لسعر السكر فى مصر نهاية كل أسبوع خلال الأعوام العشرة الماضية، فإن لديك سلسلة زمنية لأسعار السكر مكونة من 520 مشاهدة (تكونت من حاصل ضرب 52 أسبوعا و10 سنوات) يمكن أن تستخدمها للتنبؤ بسعر السكر فى المستقبل، إذا ما أعمل فيها أحد النماذج القياسية المختبرة والمختارة بعناية. كل سلسلة زمنية تحتوى على أربعة عناصر هى: الاتجاه، والدورات، والموسمية، وعنصر عشوائى، ولكى تتمكن من التنبؤ بالقيم المستقبلية لمشاهدات السلسلة الزمنية فعليك أن تفهم جيدا كل عناصرها، وتحاول الإمساك بها فى تصميمك للنموذج المستخدم.
وسائل التواصل الاجتماعى تتأثر يوميا بما يطلق عليه روّاد مواقع التواصل «الترند»، ويقصد به أى موضوع يحظى باهتمام عدد كبير من مستخدمى مواقع التواصل، لدرجة أن تتحوّل المساحات المعبرة عن آرائهم لتناول ذلك الموضوع بالنقد والتحليل والتعقيب بشكل مفرط. للتقريب بين المفهوم الاقتصادى الذى سبق شرحه للاتجاه فى عرف الاقتصاديين والإحصائيين، وبين «الترند» كما تعيه وسائط التواصل الاجتماعى، فإن تلك الموضوعات المثيرة التى تخطف اهتمام الروّاد لا يجوز وصفها بالاتجاه، بل هى بالأحرى «صدمات» تؤثّر فى الاتجاه، ويعبّر شكل الاستجابة لتلك الصدمات عن سلوك السلسلة الزمنية، ومن ثم يصبح التنبؤ بمشاهداتها المستقبلية مرتبطا إلى حد ما بدالة الاستجابة لتلك الصدمات. فهى أحداث مثيرة، لكنها قصيرة الأجل ولا تصمد أمام ظهور أحداث جديدة تؤثر بدورها فى الاتجاه العام، الذى يمكن أن نعبّر عنه مجازا بالرأى العام.
لكننى لاحظت مؤخرا أن الصدمات المثيرة فى مصر صارت كثيرة جدا ومتتابعة وعالية التكرار، لدرجة أنها أصبحت تصنع فى مجملها اتجاها عاما مضطربا ومشوّها تعترضه بعض الأحداث الموسمية المتكررة مثل موسم دخول المدارس، ومسابقات الدورى العام، والمواسم الدينية التى تثير موضوعات خاصة بأعمال درامية وإعلانية مثلا كالتى تعرض فى شهر رمضان... وكذلك هناك دورات للرأى العام يصعد فيها الاهتمام بالشأن العام أو يتراجع بحسب طبيعة المؤثرات المحلية والإقليمية... لا أذكر ذلك عن دراسة كمية أو تحليل استقرائى أجريته، بل هو محض ملاحظة أشاركها القارئ الكريم بلغة علمية، حتى يتسنى لنا معا فهم العوامل التى تساعد على صناعة اتجاهات الرأى العام ونسق الاهتمامات فى الشارع المصرى، ولذلك الفهم أهمية عظيمة لعلماء الاجتماع ورجال السياسة وصناع القرار فى مختلف المجالات، بل إن له أهمية حضارية لأية دولة تعرف قيمة اتجاهات الرأى العام، وطريقة تشكيل وتعبئة العقل الجمعى للمواطنين حول القضايا المهمة والمصيرية، وما لذلك من تأثير فى مستقبل الدولة ووضعها بين الأمم.
• • •
الاتجاه العام لاهتمامات المصريين يجب أن يختلف كثيرا عمّا هو عليه الآن. يجب أن يعكس فى جانب منه انشغالا بالشأن العالمى، بما يليق بوزن مصر وتاريخها فى محيطها الدولى والإقليمى، وبما عرف عن المصرى فى المرحلة الليبرالية التالية على صدور دستور 1923 وحتى اندلاع ثورة يوليو من اهتمام بالأحداث الكبرى حول العالم، على الرغم من تراجع وسائل المعرفة ونسبة المتعلمين آنذاك. يجب أيضا أن يعكس اتجاه اهتمامات المصريين عناية خاصة بالأحداث المحلية المؤثرة فى معايش الناس ومستقبلها مثل قضايا الأسعار والأجور والتعليم والصحة وفرص العمل والسكن... حتى وإن اختلفت طرق التناول والتعبير عن ذلك الاهتمام لتتراوح بين التنكيت والتبكيت والتصريح والتلميح والكتابة الرصينة أو المنفلتة أو المسطّحة... فالأصل هو أن تحتل تلك الموضوعات رقما صحيحا فى نسق أولويات واهتمامات الكتلة الحرجة من روّاد مواقع التواصل فى مصر على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ودرجاتهم العلمية والثقافية، فليس ثمة إنسان عاقل لا يهتم بالطعام والشراب والمأوى والزواج.. وليس ثمة مخلوق سوى يختار أن يتجاهل إقبال العالم على كارثة طبيعية أو حرب نووية مثلا لصالح أحداث تافهة عابرة لا قيمة لها ولا عائد من متابعتها. إذا تحقق ذلك فقط يمكن أن يتنبأ أصحاب الاختصاص بمستقبل هذا الشعب، والذى تعبّر عنه عينة كبيرة ممثلة من روّاد مواقع التواصل. ولا بأس أن يتعرّض هذا الاتجاه الرشيد كل حين لصدمة من الأحداث المثيرة التى تلتفت لها غرف الدردشة والنميمة، دون أن تصنع بمفردها رأيا عاما شديد السطحية والتفاهة، بل وربما كان شديد العنصرية والانحراف.
صدمات الرأى العام أصبحت شديدة العنف والتطرف، باهتة مزعجة تتلقفها وسائل الإعلام الكسولة لتصنع منها مادة لمزيد من الاهتمام، وتنفخ فيها الروح كى تعيش فترة أطول، وتملأ مساحات الهواء لبعض الفضائيات بما يرفع نسب المشاهدة ويجلب الإعلانات ويسدد أجور العاملين فى مختلف تلك الوسائل! المخاطر الأخلاقية التى تنشأ عن صناعة صدمات الاتجاه لها أكثر من دلالة، لكن أبرزها ما يتحقق من مكافأة على التردّى والإساءة وأحيانا على ارتكاب الجرائم! فهذا ضارب زوجته فى الطريق العام يطلب من القنوات التى تتهافت على استضافته مبلغ مائة ألف جنيه للظهور فى المرة الواحدة! كيف لمجتمع تتفشى فيه البطالة المقنّعة بنسب كبيرة (لا ترصدها معدلات البطالة الرسمية مع الأسف) أن يتعامل مع تلك الإشارات المحفّزة على ارتكاب العنف ضد المرأة، وربما التفنن فى صناعة صدمات جديدة مبتكرة أكثر عنفا وقسوة لجنى مزيد من المكاسب التى أدناها الشهرة.
يحضرنى هنا فيلم كوميدى بطولة الفنان فؤاد المهندس كان اسمه «سفاح النساء» وكان من تأليف وسيناريو وحوار الأساتذة محمد أبو يوسف وعبدالحى أديب وبهجت قمر، الذين أبدعوا فى تصوير سفاح النساء باعتباره بطلا جماهيريا لا يهم كيف صنع شهرته لكنه اشتهر وأصبح بمقدوره صناعة ثروات من تلك الشهرة، بل أصبح قدوة لكثير من الناس ومنهم بطل الفيلم الساعى خلف الشهرة بأى ثمن، حتى أن أحدهم صنع أغنية مطلعها «سفاح وماشى فى البلاد»... ولأن المبالغة فى تصوير سلوكيات المجتمع المحتفى بالسفاح يقصد منها صناعة مشاهد كاريكاتيرية مثيرة للضحك، فإن أحدا لم يتصوّر أن تمضى السنوات لتتحقق نبوءة فيلم سفاح النساء، ويصبح مطرب المعزة فنانا، وضارب زوجته علما، والمجدف المهرطق محدّثا... ومن يدرى ربما يسعى البعض إلى التجويد فى الابتذال ويحاول أن يؤثر على «الترند» بارتكاب جرائم أكثر بشاعة.
• • •
العالم المتقدم الحر لا يخلو من تفاهات تتصدر مواقع تواصل مجتمعاته، وربما كان ذلك إحدى آفات العصر الحديث. لكن الفرق الجوهرى بينهم وبين صانعى اتجاهات الرأى العام فى بلادنا هو أن طبقة من أصحاب التأثير لديهم تملك قوة وقدرة على صيانة ودعم اتجاه رشيد راسخ للرأى العام، لا ينحرف عنه الوعى الجمعى إلا ليعود إليه وإن انسلخ عنه عدد كبير من الاتجاهات الموازية الأقل أهمية، والتى تجد مكانها فى قنوات وبرامج الترفيه والتسلية، التى لا تتعدى بمحتواها على النصيب السوقى للبرامج والقنوات ذات الرسالة والمساهمة الكبرى فى صناعة اتجاهات الرأى بالدول التى يعرف شعوبها قيمة الوقت وخطورة الانهيار الأخلاقى والانسحاق التاريخى.
كاتب ومحلل اقتصادى