حرصًا على حقوق الفاسدين! - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 1:47 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حرصًا على حقوق الفاسدين!

نشر فى : الإثنين 22 يناير 2018 - 9:55 م | آخر تحديث : الإثنين 22 يناير 2018 - 9:55 م

مازلنا نذكر جميعا خطابا مزعجا حرص خلاله رئيس الجمهورية حينها على حياة الخاطفين كحرصه على حياة المخطوفين! بذات المنطق المعيب تعلو صيحات الغضب والاستنكار من امتداد أيادى التطوير إلى المقصد السياحى الأول فى مصر والعالم أجمع، حرصا على مصالح البلطجية الذين يديرون هذا المقصد، ويبتزون زائريه من المصريين والأجانب على السواء! أتحدث هنا عن منطقة الأهرامات التى ناديت كثيرا بتطويقها وتطويرها كمنطقة اقتصادية سياحية، وفى محيطها المتحف الكبير ومطار دولى وعدد من الفنادق الفاخرة. صيحات الاستنكار لا تعلن بالطبع رفضها للتطوير وحماية الآثار من التدهور والإهمال وتعظيم العائد الاقتصادى من استغلال المنطقة استغلالا أمثل... لكنها تزعم أن منح حق الانتفاع بإدارة تلك المنطقة إلى شركات متخصصة هو تخل متعمد من الدولة عن سيادتها على ثرواتها! وكأن وقوع ثرواتنا ضحية للإهمال والفوضى والسطو والابتزاز والتعدى على حجارة الأهرام بالقطع والنشر بآلات حادة! والنصب على السائحين وانتشار الروائح الكريهة والمشاهد المنفرة فى محيط المعالم الأثرية ــ هو مثال الوطنية والحرص على الاستقلال! وكأن استئجار خدمات الخبراء الأجانب الذين لولاهم لتأخر اكتشاف أهمية الآثار الفرعونية قرونا هو محض تفريط فى الاستقلال الوطنى، وبيع لخيرات البلاد! تصدير تلك الدعاية الكاذبة المزيفة هو غاية ما يصبو إليه المنتفعون من الفوضى فى كل مكان وزمان حتى يستمر استغلالهم الفاسد لمختلف المرافق والثروات تحت ستار الجنسية المصرية، التى لا محل لها إلا فى بطاقات هويتهم، والمصريون منهم براء.

***

الضمانات التى يتعين مراعاتها لدى اتخاذ قرار التطوير بحق الانتفاع أو بأى صورة من صور الشراكة بين القطاعين العام والخاص، تشتمل على شروط تعظيم المنفعة الاقتصادية مع صيانة حق الدولة فى بسط نفوذها على شبر من أرضها دون انتقاص. كذلك ينبغى تقديم معاملة سعرية تفضيلية للسياحة الوطنية، ومعاملة أكثر تفضيلا لطلبة المدارس والجامعات وقدامى المحاربين وذوى الاحتياجات الخاصة... كل ذلك يجب أن تضمنه شروط التعاقد مع شركاء التطوير والإدارة. إدارة المتاحف العالمية تخضع لشروط مماثلة، وفى المقابل تحظى بأعلى مقاييس الأمن والسلامة، ويتمتع الزوار بمختلف أداوت ووسائط التكنولوجيا التى تمنح للسياحة الثقافية مذاقا ممتعا.

نحن نستورد الحكام الأجانب والمدربين الأجانب متى تعلق الأمر بكرة القدم، لكننا نأبى أن نعترف بالقصور الإدارى الكبير وتفشى الفساد والمحسوبية وما يستلزمانه من الاستعانة بخدمات إدارية خاصة محلية أو مستوردة محددة الأجر! نشارك الأجانب فى مشروعات البنية الأساسية وتوليد الطاقة فلماذا لا نشاركهم فى «إدارة» مرافقنا السياحية متى كان العائد كبيرا على الأصعدة الاقتصادية والثقافية والسياسية أيضا لارتباط هذا التطوير بتحسين صورة الدولة وتسويقها دوليا على نحو ملائم، وبتعزيز استقلالها المالى.

التعاقد مع شركاء تطوير المعالم السياحية، سواء فى منطقة الأهرامات أو حديقة الحيوانات بالجيزة أو المتاحف والمزارات المختلفة، يجب أن يكون مشروطا بزيادة أعداد السائحين ومعدلات إنفاقهم ولياليهم السياحية. كذلك يجب أن تقدم دراسات وافية لتطوير كل منطقة سياحية اقتصادية بما يحقق لها الاكتفاء الذاتى، والخدمات الفندقية واللوجيستية والترفيهية بل والأمنية المختلفة. شركات الأمن الخاصة ــ مثلا ــ يمكنها أن تلعب دورا مهما فى مجالات التطوير السياحى، خاصة إذا علمنا أن التحديات الأمنية هى الأكثر تأثيرا على قرارات السائح والمستثمر فى المجال السياحى على السواء.

***

مازلت مصرا على كون فرص التنمية السياحية هى أقصر الطرق خروجا من أزمتنا الاقتصادية الراهنة. مادتها ثروات قائمة مهدرة وغير مستغلة، وتحدياتها قابلة للاحتواء متى أمكن تبنى مفهوم المناطق الاقتصادية لدى الإقدام على تطوير أى منطقة سياحية فى مصر، وإيراداتها من العملات الصعبة الشحيحة، ووفوراتها الخارجية تشمل تنمية الخدمات المتصلة، وتحقيق الرفاهية المجتمعية، ومكافحة الأفكار المتطرفة بالتنوع الثقافى وتحسين فرص قبول الآخر. لا يعقل أبدا أن تتراوح إيرادات مصر من تصدير الخدمات السياحية بين ثلاثة مليارات وأربعة مليارات أو خمسة فى أحسن الفترات! وألا يزيد عدد السائحين فى أكثر فترات الرواج السياحى على ستة ملايين سائح سنويا فى الوقت الذى تستقبل فيه فرنسا ما يقترب من 90 مليون سائح سنويا. إذا كان قطاع السياحة الأكثر نموا فى عام 2017 إذ بلغ معدل النمو فيه 170% خلال سبعة أشهر (وفق مصادر مسئولة)، فلا يمكن أن نغفل أثر الأساس «base effect» على تضخيم ذلك المعدل، ففترة المقارنة هى واحدة من أسوأ فترات النشاط السياحى فى تاريخنا الحديث.

اختيار الاقتصادية القديرة الدكتورة رانيا المشاط لتولى حقيبة السياحة يمنح أملا كبيرا فى تطوير هذا القطاع تطويرا ثوريا. فالأزمات الاستثنائية تحتاج إلى تدابير استثنائية لتجاوزها، والعهود بالملف السياحى لوزيرة تمتلك خبرات ومهارات اقتصادية نقدية فضلا عن خبرات العمل فى والتعامل مع كبرى مؤسسات التمويل الدولية، هو إجراء استثنائى له دلالات عدة. فالتنمية السياحية هى دالة فى مشروعات كبرى لتأهيل المناطق السياحية والمرافق المرتبطة، وهى من ثم دالة فى احتياجات التمويل وبدائله، هذه وتلك تتطلبان إدارة اقتصادية حصيفة، فى ظل ندرة التخطيط الاقتصادى، واعتماد وزراء السياحة السابقين على وصف المسكنات لأزمات السياحة، دون بلورة منظور متكامل لتعظيم إيراداتها.

التلويح باتهامات العمالة والخيانة والتفريط المبتذلة فى وجه كل من تسول له نفسه أن يصلح موطنا للفساد أو يتعرض لمصالح الفاسدين يجب أن يتصدى له الجميع، وأن تكشفه الأقلام والأصوات الحرة حتى نحاصر الفساد فى أكمنته، ريثما تداهمه جهات الرقابة الفاعلة، التى لم تتوان لحظة عن تطهير رداء الوطن من الفاسدين وإن احتلوا ــ خطأ أو سهوا ــ أرفع المناصب. مفردات أرجو أن تخلو منها قواميس نواب الشعب وأقطاب الإعلام تلك التى تعزز من تفشى ظاهرة الأيادى المرتعشة، تحت تهديد الاتهامات سالفة الذكر. ينبغى علينا دراسة المخاطر والتحديات، والبحث فى الفرص الكامنة خلف كل مشروع مقترح، بعيدا عن التخوين الذى هو قرين نقيصة التكفير. فلنرفض مشروعا يفتقر إلى الجدوى الاقتصادية أو الاجتماعية، فلنرفضه كونه يضر بالموارد الطبيعية والبشرية أو يؤذى البيئة... لكن الرفض المشفوع دائما بالتشكيك فى النوايا هو سلاح الجهلاء الذين يخلقون عدوا فى كل جديد لا يعرفونه.

***

أكاد أرى منطقة الأهرامات وقد تم ترفيقها على نحو ممتاز، وتم تزويدها بتلفريك يسمح للسائحين بالتنقل فى محيطها، والاستمتاع بمشهدها من أعلى بعيدا عن مخاطر المناطيد التى أزهقت أرواح السائحين فى الأقصر غير مرة. أكاد أرى الفنادق الراقية والبازارات والمقاهى المتوافقة سياحيا وبيئيا وتنظيميا وأمنيا وهى تعمل جميعا لخدمة السائحين وفق ضوابط مُحكمة وتحت رقابة مستمرة. أكاد أرى العشوائيات المحيطة بالمشهد التاريخى المهيب وقد تم إزالتها جميعا، مع نقل ساكنيها إلى حى الأسمرات وغيره من أحياء تضمن عيشا كريما لساكنى العشوائيات. أكاد أرى منطقة اقتصادية متكاملة تعمل كنموذج مصغر لمدينة سياحية تدار بكفاءة وفاعلية، بعيدا عن الفساد والمحسوبية والرشاوى. أكاد أرى مواقع التصوير العالمية التى يتم تجهيزها للاستئجار بملايين الدولارات من قبل استوديوهات هوليوود لتصوير مشاهد الأفلام الأكثر توزيعا. أكاد أقرأ فى مواقع التواصل الاجتماعى تدوينات المشاهير والأعلام فى مختلف المجالات لصالح الإدارة الجديدة لمنطقة الأهرامات، مشجعة على السياحة فى مصر... أرى تلك المشاهد غير واهم أو حالم، بل هى قريبة وواقعية قرب سلاسل المحلات الاستهلاكية العالمية التى تم تطويرها وترفيق محيطها فى بضعة أسابيع بتكاليف تقدر بمليارات الدولارات، لتصبح وعاء كبيرا لنقل مدخرات المصريين إلى الخارج عبر السلع المستوردة فى معظمها، والاستثمارات التى لا يعاد تدويرها داخل البلاد. فى المقابل هناك فرصة لفائدة مشتركة بين الدولة والمستثمر، مع خلق فرص عمل كثيرة دائمة ومؤقتة، وتحقيق عائدات من النقد الأجنبى تحقق الاستقرار المالى وتقلل الاعتماد على القروض الأجنبية والمساعدات التى باتت معدلات نموها تشكل خطرا على البلاد.

الغريب أن صيحات الاستنكار والتشكيك تتصدى بضراوة لمشروعات التنمية السياحية على الرغم من شفافيتها والإفصاح عن أدق تفاصيلها بغرض الدراسة، لكنها لا تجد غضاضة فى تسليم خيرات البلاد وثرواتها لكائنات فاسدة تقتات عليها على مدى الساعة فى جنح الظلام!.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات