«بيت المساكين».. سردية رهيفة لثنائية العقل والإيمان - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 5:33 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«بيت المساكين».. سردية رهيفة لثنائية العقل والإيمان

نشر فى : السبت 22 يناير 2022 - 9:00 م | آخر تحديث : السبت 22 يناير 2022 - 9:00 م

 

«بيت المساكين» (الصادرة أخيرا عن دار الكرمة للنشر) هى الرواية الأولى للكاتب الشاب مينا عادل جيد. مينا أعلن عن نفسه لجمهور القراء والمهتمين فى مصر بكتابه الرائع «كنت طفلًا قبطيًّا فى المنيا»، أصداء تلقى الكتاب كانت مذهلة بكل ما تعنيه الكلمة؛ قوبل الكتاب بحفاوة كبيرة، واستحق عنه بجدارة حصد جائزة أحسن كتاب فى معرض القاهرة الدولى للكتاب دورة 2021 وكُتب عنه الكثير من المقالات والإشادات الرائعة بأقلام صفوة من النقاد وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية المرموقين.
قبل أن يصدر مينا روايته «بيت المساكين» أخرج مجموعة قصصية لافتة بعنوان «البطرخانة» كانت إرهاصًا مضيئا بموهبة أصيلة وكاتب واعٍ يفكر كثيرًا ويقرأ كثيرًا قبل أن يخطو خطوته التالية. مينا عادل جيد؛ صوت إبداعى مبشر وواعد، ويخطو خطواته الأولى بثقة وثبات، وها هو يقدم لنا هذه الرواية البسيطة الجميلة التى لا أتردد فى وضعها ضمن أجمل الروايات التى صدرت فى 2021.. على الأقل بالنسبة لى.
يستكمل مينا رحلته فى البحث تحت طبقات الوعى والمعرفة؛ متأملًا ومراجعًا ومسائلًا ذاته وطبقته الاجتماعية وانتماءه الدينى، لكن هذه المرة «روائيًّا» وليس «أنثروبولوجيًّا» كما فعل فى «كنت طفلًا قبطيًّا فى المنيا».
تدور أحداث «بيت المساكين»؛ فى واحد من أهم وأكبر الموالد القبطية العريقة؛ مولد السيدة العذراء فى الصعيد، فى الثمانينيات تقريبًا، أجواء الرواية مستوحاة من تجربة أسرة «مينا» بمولد دير العذراء مريم بجبل الطير فى المنيا الذى زارته العائلة المقدسة ضمن محطات رحلة هروبها إلى مصر، يقول مينا «المولد كان بالنسبة لأسرتى بمثابة حج أو مصيف سنوى مقدس، لدرجة أن جدى لأبى كان يدخر من دخله طوال شهور السنة كلها لكى ينفق ما ادخره طوال سنة فى سبعة أيام فقط نقيمها فى المولد، وأنا حضرت هذه الأيام فى طفولتى وتعلقت بها للغاية، ومولد العذراء فى المنيا هو أكبر الموالد القبطية فى مصر، وفى تقديرى الشخصى، إذا كان المسرح هو أبو الفنون فى حضارات أخرى، فإن «المولد هو أبو الفنون فى مصر».
عبر صفحات الرواية الـ 159 نتابع بعيون الراوى الطفل الصغير صموئيل مشاهدات وطقوس المولد؛ بكل ما تعنيه الكلمة؛ من أصغر مفردة أو علامة ثقافية بالمعنى الأنثروبولوجى الواسع للكلمة، وليس بمدلولها الطقسى المسيحى فقط، إلى مدائح المداحين وأغانى المولد وألعابه وطقوسه.. إلخ.
يراوح مينا بين السرد والحوار لطرح أفكاره المتسائلة والمشاغبة حول الممارسات والطقوس الموروثة؛ يغازل بحنان ونعومة ثنائية «العقل والإيمان» التى تشكل أزمة حقيقية لأصحاب التدين الأعمى الذين يرفضون بأى شكل وضع أى تصور موروث محل سؤال أو شك أو مراجعة!.
فى ظنى يستلهم مينا روح العظيم نجيب محفوظ فى نصيه المدهشين «حكايات حارتنا» و«أصداء السيرة الذاتية»؛ نحلق مع شخصية «جوارجيوس المسكين» الذى أراه معادلا سرديا لشخصية عبدربه التائه فى «الأصداء» ذلك الشيخ أو الولى الروحانى الناطق بصوت الحكمة الإلهية والأسرار الربانية والصادح بلحن الوجود الشجى.
نرى ذلك فى شخصية «جوارجيوس المسكين» الذى يخاطب الراوى بـ «الراعى الصالح الطيب» الذى يحمل حَمَله على كتفيه، ويشفق عليه من الذبح حتى لو كان قربانا للسيدة العذراء كى تتشفع فى شفاء أمه من مرض السرطان.
سبعة أيام ممتعة نصحب فيها صموئيل الصغير فى مولد العذراء بجبل الطير فى المنيا؛ نجوس فى حنايا الجبل وثناياه؛ نشم الروائح التى يختلط فيها الفقر بالقداسة، والبخور والحنطة بروائح الصرف الصحى، ونشع الزمن بسير القديسين والحكايا والأحلام.
صموئيل الذى يراوح بين محبته بجوارجيوس المسكين حفيد المساكين؛ وإعجابه الدفين والعميق بصرامة وحدية تفكير أخيه الأكبر بطرس؛ الذى تعلم الفلسفة وقرأ الآداب واطلع على المعارف الحديثة، وأحب السينما خاصة الإيطالية، ويحلل مشاهدها ببراعة واقتدار؛ إنه فى النهاية أيقونة العقل الجامح الذى لا يرضى بالخنوع ولا الطاعة ولا الاستسلام للموروث؛ كل شىء يخضع للحساب والسؤال والشك والمراجعة؛ فيما يطل الطفل الصغير المندهش المتطلع بين نموذجى جوارجيوس المسكين وبطرس الشاك المتسائل؛ ويحسم بسلوكه المسألة كلها؛ يذرف الدموع على حمله الصغير ويتحمل رائحة الوشام الكريهة وهو يدق الصليب على جلد يده.
بالتأكيد. برع مينا فى توظيف خبراته ومعارفه ومعايشاته التى قضاها مع أسرته واكتسبها منهم؛ لقد وعى تماما بقيمة وثراء تجربة طفولته فى مولد العذراء بعد أن بزغ اهتمامه الأنثروبولوجى الخالص، واطلاعه على كتبٍ مهمة؛ مثل كتاب «الموالد والتصوف فى مصر» لنيكولاس بيخمان، وغيرها من الكتب التى بها بحث ميدانى وتحليل دقيق للممارسات الثقافية فى الموالد والأعياد والطقوس الدينية.. يقول لى «ثم بعد قراءتى لرواية «أيام الإنسان السبعة» لعبدالحكيم قاسم، الفريدة من نوعها، اتخذت قرار كتابة الرواية، قلتُ لنفسى: أنا أيضًا لدىّ ما أقوله عن الموالد فى مصر، وجلست أكتب بدون خطة واضحة لسير الرواية أو شخصياتها أو حجمها أو لغتها، ولكنى كنت أكاد أرى أجواءها، وأسمع أصوات الأسواق والبيوت والمدائح والتراتيل القديمة والوشامين، وأصحاب «المراجيح».. إلخ.
وفى وسط تلك الأجواء وجد مينا نفسه طفلًا صغيرا ذكيا يراقب ويتأمل ويندهش، فحرص على أن يكون الراوى طفلًا، يقدم من خلال وعيه وفضوله وسؤاله تجربة هذه الرواية الرهيفة الصادقة فى تصويرها؛ بلغة راوحت بين الرصد والتسجيل والتوثيق دون أن يفارقها حس شعرى يتألق فى ومضات دقيقة هنا أو هناك عبر النص.
رواية جميلة تصور لنا قطعة حميمة من ثقافة وتاريخ وتصورات أشقاء لنا فى هذا البلد منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا.