لماذا نحب العلم الكئيب؟! - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 1:53 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لماذا نحب العلم الكئيب؟!

نشر فى : الإثنين 22 يناير 2024 - 6:40 م | آخر تحديث : الإثنين 22 يناير 2024 - 6:40 م

قال صديقى: ليت الناس اهتموا بأمور الاقتصاد قبل هذا، عندما كانت المعايش أيسر. قلت له إن الاقتصاد هو علم الندرة، ما إن يضيق المرء بحاله حتى يشعر بأهمية تدبير الموارد اللازمة لإشباع حاجاته، والوفاء بالتزاماته، وهذا تحديدا ما يساعدنا فيه علم الاقتصاد.
• • •
منذ أن اضطرب العالم بالشدة الفيروسية، توالت الصدمات التى التهمت الكثير من ثمار النمو البشرى طيلة عقود. تداعت للجائحة سلاسل التوريد التى صارت ــ بحكم العولمة ــ ناظمة لعلاقات البشر فى التجارة والنقل. أغلقت الموانئ وفرض التقييد على حجم ونوع الصادرات والواردات، وساهمت إغلاقات الشوارع والمرافق والمنشآت فى كساد الأسواق وانهيار أسعار النفط، مع تراكم الطلبات غير الملباة على أبواب المصانع فى انتظار ساعة الانفراج. وما إن جاءت تلك الساعة، حتى ضرب العالم موجة تضخم عنيفة، ناتجة عن التعافى السريع، وانتفاضة مليارات البشر من حالة الكمون التى سكنتهم ما يقرب من عام ونيف، لهاثا خلف السلع والخدمات، التى توقفت ماكينات المصانع ومختلف المؤسسات عن إنتاجها خلال فترات الإغلاق.
كان هذا التعافى السريع وما أحدثه من موجة تضخمية غير مسبوقة منذ عقود سببا فى توجه البنوك المركزية حول العالم تجاه التشديد النقدى، لاحتواء التضخم واستعادة القوة الشرائية للعملات الوطنية. فى ذات الاتجاه، تحرك مسئولو المالية العامة فى الدول تجاه الكبح المالى، الذى من أبرز سماته ضغط الإنفاق وإبطاء حركة الاقتصاد، ولو كان ذلك على حساب التشغيل وخلق فرص العمل واستعادة معدلات النمو لوتيرتها قبل الجائحة. كان من أبرز أدوات التشديد النقدى رفع أسعار الفائدة، وهو ما يعنى مضاعفة الأعباء التمويلية على الدول النامية، التى هى الأكثر استدانة وانكشافا وهشاشة. الأمر الذى أدى إلى تجاوز الديون القائمة ثلاثة أمثال حجم الاقتصاد العالمى، وهو ما ينذر بانفجار وشيك، يعمق الفجوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، ويضعف الثقة فى أن يعمل العالم وفق أجندة متسقة، لاحتواء الصدمات والتعامل مع الخطر الداهم المتمثل فى تغير المناخ والاحترار العالمى.
تزامن ذلك التعافى المرتبك، والانفصال البنيوى بين الشمال والجنوب، مع أزمة الحرب فى أوكرانيا، وما أحدثته من مزيد من الانقسام وإزكاء نهج الانكفاء حول الذات والنكوص عن طريق العولمة. ما من شأنه أن يزيد من تفتيت وإعادة تركيب سلاسل الإمداد وفق مبدأ جديد هو التكامل الرأسى مع الأصدقاء friend shoring عوضا عن التكامل الرأسى خارج الحدود بغير قيود off shoring.
وقبل أن تنحسر الأزمة الأوكرانية ــ الروسية أو حتى تهدأ وتيرتها، وقبل أن يجتمع العالم على حل مشترك لقضايا الديون والفقر والاحتباس الحرارى والتعامل مع الجوائح المتوقعة القادمة، انفجر أضعف عضو فى جسم الكوكب بحرب إقليمية من طرف واحد. هذا العضو الضعيف هو منطقة الشرق الأوسط، التى صارت مضرب الأمثال فى صعوبة حل أزماتها، وتفكيك معضلات صراعاتها. العدوان الإسرائيلى على غزة والضفة الغربية تجسدت فيه كل صور الوحشية والدموية كما لم تتجسد فى أى حرب من قبل. الأعداد التى تساقطت جراء هذا العدوان الغاشم فاقت كل التوقعات، وعززت من انفصال الغرب الداعم لإسرائيل عن الشرق الداعم لقيم الإنسانية المجردة قبل أى شىء. هذا الانفصال تتجاوز تبعاته ما يتعلق بتوتر العلاقات التجارية أو حتى الدبلوماسية بين مجموعات الدول، بل هو إضافة إلى رصيد الكراهية المنشئة للإرهاب بكل صوره، والذى كانت ضرباته قد تراجعت بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة.
• • •
هذه الحرب فى فلسطين المحتلة لا يأمن أحد ألا يتسع مداها ليشمل عددا من دول الجوار، فتتحرك فى ركابها بعض الفصائل المدعومة من قوى إقليمية لإشعال مزيد من الاضطراب فى هذا الإقليم المريض. وما يحدث فى مضيق باب المندب من مهاجمة للسفن والناقلات التابعة لإسرائيل، إن هو إلا لفتة عابرة لما يمكن أن تتطور إليه الأوضاع، لتضرب أهم مصادر الدخل من النقد الأجنبى لكل من مصر ولبنان والأردن، بالتأثير سلبا على حركة الملاحة فى قناة السويس، وتدفق السياحة والاستثمار الأجنبى إلى المنطقة بأسرها، مع ارتفاع تكلفة تأمين التجارة والنقل بصورة تهدد العالم كله بمزيد من الموجات التضخمية، التى عادة ما تستتبعها موجات من التشديد النقدى والمالى.
من هنا كانت أهمية شعار «إعادة بناء الثقة» الذى رفعه المنتدى الاقتصادى العالمى الذى انعقد فى دافوس بسويسرا خلال الفترة من 15ــ19 يناير الحالى، بحضور عدد كبير من قادة ومستثمرى العالم. إذ أدرك الداعون إلى المنتدى فى دورته الأخيرة حساسية الوضع المتشرذم، الذى انقسمت معه خريطة الكرة الأرضية إلى جزر منعزلة. كما أدركوا ضرورة التئام صانعى القرار حول قيم مشتركة، لدى التعامل مع مخاطر ارتفاع تكلفة التمويل، وضرورات انتقال الطاقة، وترميم العلاقات الاقتصادية بين الدول، وتعزيز الثقة بين القطاعين العام والخاص فى ظل تلك الأزمات المتلاحقة.. إلى غير ذلك من مستهدفات، يمكن أن تندرج جميعا تحت شعار المنتدى.
• • •
فى هذا السياق المأزوم، تمر مصر بأزمة اقتصادية طاحنة، قوامها ارتفاع معدلات التضخم، وانهيار العملة الوطنية أمام الدولار، وزيادة معدلات نمو الدين العام، والتهام خدمة الدين لجانب معتبر من الموازنة العامة، وزيادة كل من العجزين الهيكليين (الداخلى والخارجى) على نحو لا يستقيم معه الاستمرار إلا مزيد من الاستدانة! فى دائرة مفرغة لا خروج منها فى الأجلين المتوسط والطويل إلا بحلول الاقتصاد العينى، بزيادة الإنتاجية، وتعميق المكون المحلى فى الإنتاج بشقيه الصناعى والزراعى، والتخفيض التدريجى فى الاعتماد على المكون الأجنبى والدين الخارجى الذى هو أساس الشح الدولارى.
لكن الاقتصادى الكبير «جون ماينرد كينز» يقول: «فى الأجل الطويل كلنا أموات» لذا لا غنى عن التحرك سريعا فى الأجل القصير تجاه إعادة بناء الثقة فى الاقتصاد، بحزمة من القرارات الداعمة للاستثمار الخاص، وللتخارج الحكومى من الأنشطة التى تزاحم فيها هذا الاستثمار. كما يجب أن تتحرك الدولة سريعا تجاه مزيد من التشديد النقدى لاحتواء التضخم، الذى هو أولوية أولى مقدمة على جذب الاستثمار والتشغيل. ولا يكتفى البنك المركزى المصرى برفع أسعار الفائدة لمحاولة تقليص الفجوة بين سعر الفائدة الاسمى والحقيقى (هو سعر الفائدة الاسمى بعد استبعاد معدلات التضخم)، وإنما هناك ضرورة للحد من طباعة البنكنوت التى تساهم بشكل مباشر فى زيادة المعروض النقدى، بصورة ترفع من معدلات التضخم باستمرار. كذلك يملك المركزى أدوات أخرى للتشديد النقدى، منها عمليات السوق المفتوحة لامتصاص فائض السيولة من الأسواق.
أما المالية العامة فعليها أن تتحرك فورا تجاه الكبح المالى. وهذا يتطلب تخفيض الإنفاق الحكومى، وتجميد عدد من المشروعات المستهلكة للنقد الأجنبى والمستنزفة للسيولة المحلية. حتى وإن كانت تلك المشروعات ممولة من خارج الموازنة العامة، فهذا الأمر يزيد من ارتباك المشهد الاقتصادى، إذ يعمل عكس اتجاه مبدأ وحدة الموازنة، ويؤدى إلى زيادة الدين العام، الذى بدا جليا أن معدلات نموه داخل أجهزة الموازنة أقل من نظيرتها خارج أجهزة الموازنة وتحديدا فى الهيئات الاقتصادية.
كذلك يجب أن تقترن السياسة التقشفية بخفض الواردات غير الضرورية، مما يستلزم تعزيز دور جهازى حماية المنافسة وحماية المستهلك لتحقيق مزيد من ضبط الأسواق وحظر الدولرة، ومنع التلاعب والاحتكار والاستغلال، المؤدى إلى مزيد من التضخم ومعاناة المستهلكين المحرومين من البديل المستورد، تحت وطأة الأزمة الدولارية الآنية. فى الوقت نفسه يمكن استخدام الحصيلة الدولارية الناتجة عن المفاوضات مع صندوق النقد الدولى (سواء من الصندوق مباشرة أو بدعمه وضمانته)، وعن تدفقات رءوس الأموال نتيجة للتشديد النقدى (مع هدوء التشديد فى أمريكا وأوروبا) لتحريك سعر الصرف قليلا معززا بتلك السيولة، ولجذب مزيد من التدفقات، حتى تعيد للجهاز المصرفى قدرته على قيادة سوق الصرف الأجنبى، وعدم الوقوع تحت سيطرة السوق الموازية.
هذا التحريك كى يكون مفيدا، لابد أن تتوافر فيه الاستدامة، بأن يتم تبنى نظام الربط المرن بالدولار، فيتحرك صرفه فى نطاق سعرى يفصح عنه من قبل البنك المركزى كل ربع سنة (مثلا). ويخضع تحديد ذلك النطاق السعرى لعدد من المؤشرات. كما يجب ألا تتوقف الجهود الرامية إلى تخفيض التعامل بالعملة الصعبة داخليا وخارجيا، مع زيادة وتنويع مصادر الدخل من العملة الصعبة، وخاصة الاستثمارات الأجنبية المباشرة واستثمارات الحافظة.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات