معاوية الدراما.. ومعاوية التاريخ - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 17 مارس 2025 10:28 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

معاوية الدراما.. ومعاوية التاريخ

نشر فى : الإثنين 17 مارس 2025 - 5:30 م | آخر تحديث : الإثنين 17 مارس 2025 - 5:30 م

 

عندما تم الإعلان عن مسلسل معاوية بن أبى سفيان منذ ثلاثة أعوام، أدهشنى مسارعة البعض بتقييم العمل الفنى قبل إطلاقه! وانقسام المنتقدين بين: رافض لتعظيم معاوية وغسل تاريخه من تجاوزات فى حق كبار الصحابة، ورفضه لبيعة الإمام على بن أبى طالب، وقتاله لإمام المتقين فى صفّين.. إلى غير ذلك من تبعات أرست دعائم الدولة الأموية التى هى فى ذاتها مناط خلاف لم يحسم بين المسلمين.. وبين ناقم على أى طعن فى قرارات الصحابة وانحيازاتهم، سواء فى فريق معاوية أو فريق الإمام على. وهؤلاء منهم من يرى الصحابة (على اتساع التعريف) فوق النقد، بل وفوق التجسيد فى الأعمال الدرامية، ومنهم من يرى المساس بصحابى، ولو لم يكن ذا سبق فى الإسلام، طعنا فى الدين وهدما للعقيدة، مستندين إلى بعض الكتابات السلفية التى تربط بين عقيدة الإسلام وتنزيه الصحابة.

ولأن تصنيف العمل (الذى لم يكن قد صدر بأى شكل) قد ارتكز فى جانب منه على الانحيازات المعروفة لجهة الإنتاج ومنصات العرض، فإن فتنة المسلسل قد حدت ببعض الأطراف إلى التلويح بإصدار عمل مناهض للدولة الأموية، بل هو عمل مناهض حتى للخلافة العمرية، بتمجيد قاتل سيدنا عمر رضى الله عنه أبى لؤلؤة المجوسى! وبعيدا عن انحرافات الغلاة فى أى مذهب أو فئة، فقد كنت تواقا لمشاهدة المسلسل بعد أن تقرر عرضه أخيرا لأكثر من سبب، أولا: لأن الدراما الرمضانية باتت تخلو من أى عمل تاريخي، ناهيك عن عمل يتحدث أبطاله الفصحى، فما كان منى إلا أن أحن لمشاهدة هذا النوع المنقرض من المنتجات الدرامية. كذلك فقد حملنى الفضول على أن أتابع مسلسل معاوية لما لابد وأن يعرض له من أحداث الفتنة الكبرى، تلك التى يأسى لها المسلمون، ولكن معرفتها أمر لازم لفهم نشأة الفرق والمذاهب فى الإسلام.. وقد قرأت العديد من أمهات الكتب فى هذا الباب، والكثير من كتب المعاصرين التى استندت إلى تلك الأمهات، معالجة ما بها من لغو وحشو وإطناب بلغة يسيرة مألوفة.

وعلى اختلاف المصادر، ومنها ما ينسب إلى الموصومين بالرافضة وغلاة الشيعة، كان الخط التاريخى لأحداث الفتنة الكبرى يسلّط الضوء على السبق والفضل العلوى، وحكمة الإمام على ــ كرم الله وجهه ــ فى التعامل مع الأزمات المتتالية، منذ اندلعت الثورة على خلافة ذى النورين، وحتى محاربة الخوارج الجهلاء، الذين أنبتت شجرتهم الملعونة كل إرهاب وتطرّف إلى يومنا هذا.  كذلك لم تعرف أكثر الأقلام المنصفة لمعسكر الشام فى صفّين، ذلك الولع الساذج بنزاهة المسعى السفيانى فى الحرب، من أى طمع فى السلطة والاستمرار فى الولاية وتوزيع غنائمها على الموالين والمناصرين، تحت غطاء قميص عثمان رضوان الله عليه، الذى آثر الشهادة على إراقة دم مسلم واحد على باب بيته! ناهيك عن آلاف القتلى من الصحابة وأصحاب السبق فى الجمل وصفين والنهروان وما بينها وما تلاها..

•  •  •

بالتأكيد لا يمكن لأحد أن يمحّص قلوب الناس أو أن يزعم معرفة بطوايا النفوس، وربما امتلأت صفوف المقاتلين بمئات المؤمنين بثارات عثمان بغير طمع فى دنيا أو مكافأة، وبآلاف الجنود المحتشدين طاعة لأمرائهم وعشائرهم على غير تدقيق أو تحقيق.. لكن مآلات المعارك لها دلالات كاشفة، والعقد لعمرو بن العاص بولاية مصر بعدما احتمله من نصيب معلوم فى إثارة الناس ضد خلافة عثمان، وما لعبه من دور لاحق فى صفين والتحكيم لصالح معاوية، وعدم عقد أية محاكمات للقصاص من قتلة عثمان بعدما استقر الملك فى يد معاوية، وموقف الزبير وطلحة من الإمام على، ورد بيعته بعدما كان منهما من دور فى تأجيج الصدور ضد عثمان، فى الوقت الذى كان فيه سبطا رسول الله يقفان على باب الخليفة المغدور لحمايته من الغوغاء بأمر من أبيهما الكريم، وموقف السيدة عائشة (رضى الله عنها) قبل وبعد استشهاد ذى النورين... تشير جميعها إلى حضور الدنيا والسلطة والولاية والنفوذ والأحقاد الدنيوية والجاهلية فى أحداث الفتنة الكبرى، بدرجة أكبر من حضور القصاص أو نصرة الدين أو التخلّص من مشعلى الثورات. وهنا لابد من التمييز بين ما هو سياسى وما هو دينى، بل إنه من صميم الدين أن يميز المسلّم بين الكمال (البشرى) والعصمة النبوية لصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام، والنقص الطبيعى لسائر الصحابة والتابعين على اختلاف منازلهم وتقدير مناقبهم، فكل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب المقام المحمود.

ولأن مختلف السير الذاتية فى الدراما العربية مؤسسة على تنزيه أصحابها من الأخطاء، وتحويلهم إلى ملائكة ولو كانوا من أصحاب الفنون والعلوم وأهل السياسة، فليس أقل من تحويل سير الصحابة والتابعين إلى ما يشبه سير الأنبياء.. بل إن الله تعالى (ولله المثل الأعلى) قد بيّن لنا فى أحسن قصصه (سورة يوسف) كيف أن إخوته تآمروا عليه وهم الأسباط وأبناء يعقوب، وكيف أن الضعف الإنسانى كاد أن يصيب نبى الله يوسف فهمّ بامرأة العزيز لولا أن رأى برهان ربه.. وبيّن فى موضع آخر ما اعترى صاحب الحوت من ضعف بشري.. فحرى بالبشر من غير أصحاب الرسالات والوحى والنبوة أن يخطئوا ويستغفروا، وهذا لا ينتقص من أقدارهم، ولا يطعن أو يجرح فيما نقلوه (باتفاق وإجماع) من شان الدين، إلا فى نفوس الضعفاء والمسطحين الذين لا يعرفون فى الحياة إلا لونين فقط الأسود والأبيض.

من هنا نزع أصحاب مسلسل معاوية إلى إغفال الكثير من الأحداث التى نقلتها كتب التاريخ، كاشفة عن خيوط المؤامرة التى أحاطت بخلافة الإمام على، تلك التى لم يسع إليها بل وكان رافضا لها ومتمهّلا فى قبولها بعد إلحاح حقنا لمزيد من الدماء.. كذلك أغفل المؤلف الكثير مما تعرّض له صحابة الرسول (ص) من أذى على يد مروان بن الحكم والمحيطين بسيدنا عثمان إبان خلافته.. ومنهم من طرد وجلد وأهين وعزل.. وتجاوز المسلسل أحداثا جوهرية فى الأيام الأخيرة للخلافة العثمانية، والتى عقدت فيها الوعود بعزل الولاة والتخلص من أسباب ثورة الأمصار بل وثورة أهل المدينة ذاتهم، والرجوع فى تلك الوعود غير مرة بعد وساطة الإمام على نفسه بين الخليفة وأصحاب العقل من الثوّار.. طبعا تلك الملابسات لا تبرر أبدا اغتيال سيدنا عثمان، لكنها تكشف تطور الأحداث، وتخذيل بنى أمية، وتبيّن معضلة تداول السلطة التى لم تحسمها الشورى فى الإسلام، ربما لأن تنظيم الشورى كان يحتاج إلى مزيد من الدراسة والاجتهاد الوضعى، حتى لا تتحوّل القاعدة السارية فيما بعد إلى الحكم لمن غلب!

•  •  •

على الرغم من حرص المؤلف على السير على خط الكتابة الآمنة، التى تزعم أن الجميع على حق وإن اقتتلوا، وأننا نحن المشاهدون ربما نكون وحدنا الخاطئين! فقد انهالت عليه أسهم النقد لتصويره معاوية فى مغطس بقصره، يستمتع بحكاية وتدليك من جارية ملك يمينه!. وكأن التاريخ لم يشهد على النعيم الذى كان يعيش فيه بنو أمية فى قصور الشام! وكأن الجوارى كنّ منتقبات فى القصور!.. ولا أريد أن أستبق أحداث المسلسل كما فعل البعض، فقد انتصف الشهر ولمّا تكتمل أحداثه بعد، لكن ما مضى من أحداث يكفى لوضع تصور عام على منهج الكتابة، وطريقة التناول التوافقية.. وليت المؤلف كان منحازاً فى عرض رؤيته، فهذا لا يؤجج الفتنة إلا فى المجتمعات الهشة والجاهلة، فما العمل الدرامى إلا نسخة واحدة من الحقيقة فى ضمير مؤلفه، هو أقل من أى كتاب تناول أحداث الفتنة الكبرى، ولا يقارن إلا بمقال أو سلسلة من المقالات التى لن تقدّم جديدا، ولن تعيد دولاب التاريخ إلى الوراء.. فلنتعامل مع المنتجات الفكرية -على اختلافها- بهدوء، ولنتناولها بالنقد والتحليل لا بالطعن والتكفير، حتى لا يغلب علينا منطق الخوارج..

 

كاتب ومحلل اقتصادي

 

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات