جلسنا مجموعة يجمعها جيل ينتمون إليه، رحنا نتسلى بإجراء مقارنات بيننا وجيل آبائنا. قارنا المشارب والأمزجة والملبس والمأكل والعلاقات العاطفية وقارنا مستويات التفكير وأوجه الفضول وأساليب الكتابة وروح الفكاهة. لم تغب عنا مقارنة قادة الحكم ورجال السياسة ومكانتهم فى المجتمع وفى الإقليم وفى العالم. قارنا بين الأداء عموما، أداء الفرد وأداء الجماعة وأداء المجتمع والدولة.
نقلتنا هذه المقارنات المحلية إلى مقارنة الأوضاع الدولية وعلاقات دولنا بهذه الأوضاع. توقفنا برهة عند صفة أطلقها أحد الحاضرين على النظام الدولى الراهن، قال إنه نظام طابعه الإهمال، على عكس النظام الدولى الذى عاش فى ظله جيل الآباء، وهو النظام الذى اتصف بالحنكة والحكمة والذكاء.
كانت تفاصيله واضحة وكان مفهوما. طرح خيارات وسمح للدول النامية، وبعضها حديث الاستقلال، بحرية أن تعمل وتقاوم وتقيم منظماتها وتجمعاتها الدولية، بشرط أن تحترم الحدود بين القوتين الأعظم، فلا تتجاوزها ولا تتجاهلها وإن أمكن لها استغلالها والاستفادة منها.
النظام الدولى فى ذلك الحين كان ثنائى القطبية، وباقى التفاصيل معروفة ولا داعى لإعادة سردها، يكفينا منها الآن واقع أن القطبية الثنائية قامت على ادعاء أن أساسها أيديولوجى، الرأسمالية فى جانب والشيوعية فى الجانب الآخر. أهداف الطرفين واضحة وأهمها التوسع فى النفوذ والتبعية باستخدام الأيديولوجيا. كل طرف يتوسع وأحيانا على حساب الطرف الآخر، إن أمكنه ذلك، ولكن بدون تهديد سلام وأمن واستقرار «النظام الدولى». كانت قضية الغرب الأساسية الدعوة لتبنى الرأسمالية نظاما اقتصاديا واجتماعيا وقضية الجانب السوفييتى نشر الاشتراكية بمختلف أشكالها ومستوياتها نظاما اقتصاديا واجتماعيا. القضيتان واضحتان كذلك كانت بنفس الوضوح قضايا دول وشعوب العالم النامى. كانت هناك قضايا حماية الاستقلال الوطنى والتخفيف من التبعية الاقتصادية وبناء الدولة الحديثة مستفيدة من بعض إنجازات الغرب والشرق، كانت هناك أيضا قضية الاستيطان. قضايا كلها واضحة ومفهومة.
***
عادت، أو تعود القطبية الثنائية وعادت أو تعود النزاعات حول الحدود فى صراع دولى جديد. لا شىء فى هذا النظام واضح المعالم تماما، حتى سلوكيات أطراف الصراع يشوبها التخبط وتتضح بسوء التخطيط والتنفيذ. النتيجة نظام دولى تنقصه الكفاءة ويعيبه غلبة الواقعية، وأحيانا تكون مفرطة، ويعيبه غياب الأيديولوجيا، أو على الأقل، بعض القواعد الأخلاقية والتزام منظومة بعينها للقيم.
بصعوبة شديدة يمكن القول أن ما يجمع اليوم بين أمريكا وأوروبا هو نشر الديمقراطية الليبرالية ونظام يعتمد على حرية السوق، وأن ما يجمع بين روسيا والصين ودول أخرى هو التصدى لمحاولات الغرب نشر الديمقراطية الليبرالية ورفض الاقتصاد الحر. المطروح من جانبها هو ديمقراطية واقتصادية موجهتان، أى خاضعتان لتدخل الدولة المباشر غالبا وغير المباشر أحيانا، أقول هذا بصعوبة شديدة لأن قليلين جدا يمكن أن يقتنعوا بأن الصراع الدولى الجديد لا يخرج عن كونه سباقا بدائيا، هدفه التوسع بالتجارة وحدها إن أمكن، وبالتجارة والقواعد العسكرية إن عجزت التجارة وحدها. لا قضية حقيقية بين القوى الكبرى والنظام الدولى الناشئ، ولا قضايا مهمة فى العالم النامى، غير دعم سلطة الدولة.
فى غياب قضايا الأيديولوجيا كجوهر صراعات القوة الدولية انعقدت قمة الدول الصناعية السبع فى اليابان لا لشىء إلا لتعلن أن الملف الغربى يبارك عملية صعود اليابان كقوة عسكرية لها شأن فى الصراع الناشب حاليا للسيطرة على البحار والممرات المائية والبرية ذات القيمة الاستراتيجية والتجارية العالية. عادت اليابان إلى ساحة صراعات القوة بعد تردد طويل. انتهى ترددها حين قررت الصين ترجمة قوتها الاقتصادية الجديدة فى مجموعة سياسات تؤكد وجودها كقوة عظمى على طول طرق التجارة فى البحار الآسيوية والباسيفيكية والطرق المؤدية فى النهاية إلى قلب الغرب فى أوروبا.
دخلت اليابان وسط آسيا تنافس الصين فى الاستثمارات الموجهة لمشروعات البنية التحتية معتمدة مبدأ الجودة مقابل استخدام الصين أسلوب التسهيلات الائتمانية وسرعة الانجاز وكثافة قوة العمل. كذلك تدخلت الولايات المتحدة فى السباق بسياسات تصعيدية لإحاطة الصين بمشكلات ونزاعات حدودية، وبالفعل لم يخف أوباما أن زيارته لفيتنام كانت مساهمة لها قيمتها فى إشعال نيران خلافات قديمة مع الصين، من ناحية أخرى افتتحت اليابان مفاوضات مع إندونيسيا لبناء ميناء بحرى على مستوى أرفع من مستوى الموانئ التى تشيدها الصين فى باكستان وغيرها، هكذا صارت اليابان تقدم نفسها للدول النامية كطرف فى موجة عالمية تقودها الدول الغنية لبناء موانئ فى مواقع استراتيجية. الصين تشترى أراضى ومواقع فى أفريقيا خاصة على السواحل أو قريبة منها، ودول عربية دخلت السباق وكذلك تركيا. الهند تريد أن يكون لها موقع قدم فى منطقة الخليج فراحت تتفاوض مع إيران على أن يكون لهما طريق جديد يمر من جنوب آسيا إلى أعماقها فى الشمال.
***
غير مفهوم تماما أو بالقدر الكافى ما وراء انسحاب الولايات المتحدة من مواقع لها فى أوروبا وفى الشرق الأوسط فى وقت تصعد فيه وتتوسع الصين بسرعة وتصميم. غير مفهومة أيضا بدرجة مناسبة الدعوة الأمريكية المبطنة لموسكو لتتولى روسيا نيابة عن القوتين الأعظم مسئولية حل الأزمة السورية، بينما المعلوم هو أن روسيا لن تتحمل هذه المسئولية بدون ثمن يضيف إلى قوتها ومكانتها الدولية. غير مفهومة كذلك الرغبة الجامحة لدى نسبة عالية جدا من البريطانيين للتخلى عن عضوية بلادهم فى الاتحاد الأوروبى، بينما الأزمات المتعددة تمسك بخناق القارة والروس يستعيدون مواقع فى شرق القارة.
غير خاف أنهم فى أمريكا مختلفون جوهريا حول دورهم فى العالم. ثم أنه لا جدال فى أن الانعزاليين فى أمريكا يكسبون أرضا كل يوم.
***
غير خاف أيضا أن فى الصين كما فى روسيا من يطرح فكرة إقامه «نظام دولى بديل»، بمعنى نظام يتولى توجيهه وقيادته حلف غير عسكرى بالضرورة من القوى الجديدة الصاعدة. الدافع وراء هذا التفكير ربما كان وقف ظاهرة السقوط المتسارع والمتنامى لقوى ناشئة. شاهدنا فى الشهور الأخيرة دولا سقطت لصالح الحلف الغربى ولم يكن لدى «الحلف البديل» الوسائل أو الإمكانات اللازمة لوقف هذا السقوط. سقطت الأرجنتين ثم البرازيل والآن فنزويلا وبوليفيا مهددتان، وكوبا تقف متأرجحة بين فرص لنمو أسرع بمباركة أمريكية وبين استقرار واستمرار النظام الحاكم بأيديولوجية هجينة. هكذا نجحت الولايات المتحدة فى الحاق هزيمة مبكرة بحلم أعضاء القوى المناهضة للغرب، لكنها بهذا الإنجاز تكون قد أحيت لدى الصين والروس، إمكان إقامة نظام بديل.
أتصور أن أوباما بسياساته التى أثارت انتقادات عديدة وبخاصة فى أوروبا الشرقية والشرق الأوسط قد تسبب فى خلق وعى لدى روسيا والصين بضرورة الإسراع نحو دعم مصادر القوة والتضامن فى مجموعة شنغهاى.
لا شك عندى فى أن الغرب يمر بحالة ارتباك شديد وخلافات جوهرية حول سياسات الأمن والدفاع، وهذه فى حد ذاتها فرصة ذهبية للصين وروسيا للإسراع بحشد مصادر قوتيهما استعدادا لاحتلال موقع القطب الثانى فى نظام دولى جديد كبديل لنظام يخضع لهيمنة غربية. وفى اعتقادى أن الدولتين لن يدعا فرصة انعقاد قمة العشرين تمر دون أن يبذلا الجهد اللازم لوقف انضمام قوى مهمة كالهند وإيران للحلف الغربى وتشجيع دول عربية مؤثرة للانضمام إلى مشروع الحلف البديل.