نشرت جريدة الخليج الإماراتية مقالًا للكاتب يوسف أبو لوز، تناول فيه أن لوحة الجرنيكا لبيكاسو ليست مجرد عمل فنى، بل وثيقة إنسانية وأخلاقية خالدة تُدين وحشية الحرب وتجسد الألم الإنسانى الذى يفوق حدود الزمان والمكان، ما يؤكد حقيقة أن الفن أداة مقاومة وتوثيق تتفوق -أحيانًا- على كل وسائل الإعلام والتأريخ.. نعرض من المقال ما يلي:
رسم بابلو بيكاسو لوحة «الجرنيكا» فى 35 يومًا كما تذكر هذه المعلومة بعض مصادر حياته، غير أنه لم يتحدث عن اللوحة فى الكتاب الذى وضعته فرانسواز جيلو، تلك الصبية الشابة التى تزوجها وهى فى الحادية والعشرين من عمرها، فيما كان هو فى السبعين، ومع ذلك، استمر الزواج نحو عقدين من الزمن، وأنجبت منه طفلين، ثم خرجت من «مؤسسة» الفنان العالمى (المجنون).. بسلام.
كانت القوات الجوّية الألمانية والإيطالية قد قصفت قرية الجرنيكا الواقعة فى إقليم الباسك شمال إسبانيا فى 26 إبريل 1937، وصادف ذلك اليوم الذى كان (الإثنين) يوم تسوّق للآلاف من الإسبان، ويقال إن الطيارين الذين قصفوا المدينة تلقوا تعليمات من قادتهم بأن يسمعوا موسيقى فاجنر فى أثناء أداء مهمّات القصف التى طالت المدنيين فى ذلك اليوم.
أصبحت «الجرنيكا» شهادة إدانة للحرب وويلاتها الناجمة عن قرارات قادة فى سلاح الجوّ تبيّن أن بعضهم مرضى نفسيون، تحرّكهم نزعات عصابية تدفع بهم إلى القتل من دون ضوابط أخلاقية، وأكثر من ذلك، يشعر بعض هؤلاء المرضى بالسعادة المرضية بالطبع، فى الوقت الذى ينفّذون فيه إسقاط القنابل على البشر والحياة فى أى مكان فى العالم.
حين رسم بيكاسو لوحة الجرنيكا بطلب من الحكومة الإسبانية، استجاب فورًا للطلب الذى اعتبره واجبًا أخلاقيًا من جانب فنان كان ينتمى إلى اليسار فى تلك الفترة السياسية والثقافية التى عاشها فى باريس، حيث هناك، التقى فرانسواز جيلو.
فى الفترة التى عاش فيها بيكاسو فى باريس كان الروائى الأمريكى آرنست همنغواى يعيش فى العاصمة الفرنسية أيضًا، وهناك التقى بيكاسو: «..ذهب بسيارته الـ«جيب» وأحضر علبة مملوءة بقنابل يدوية، ثم كتب عليها: «إلى بيكاسو من همنغواى».
أصبحت «الجرنيكا» مفصلًا فنيًا وثقافيًا فى تاريخ بيكاسو، لكن الأهم من ذلك، أنها أصبحت لوحة عالمية أيقونية ملهمة للكثير من شعراء العالم الذين كتبوا قصائدهم من خلال روح اللوحة الرامزة للعنف والقتل، والإرادة البشرية فى الوقت نفسه.
تحولت «الجرنيكا» إلى بيان فنى إبداعى، ثقافى وأخلاقى فى الوقت نفسه، وكما لو أن المدينة قد اكتسبت شهرتها العالمية من اللوحة وليس من القصف الذى تعرّضت له بسلاح الجوّ المزدوج من جانب طيارين ألمان وإيطاليين، وهذا الأمر يبدو صحيحًا إلى حدّ بعيد، فالكثير من المدن والقرى، بل والشعوب أيضًا قصفت منذ الحرب العالمية الأولى وإلى اليوم بطيران يحمل أسلحة محرّمة دوليًا، ولكن لا أحد يعرف شيئًا عن تلك المدن الممهورة بالدم والرماد، لأنه لا يوجد بيكاسو آخر يوثّق الحرب وكوارثها المرعبة مثلما هو الأمر فى «الجرنيكا».
هذا هو وقت استعادة «الجرنيكا» ومشاهدتها من جديد، مشاهدة اللوحة، ومشاهدة المدينة، ثم استعادة بيكاسو نفسه الذى لو أنه على قيد الحياة لما انتهى من رسم «جرنيكا» تلو أخرى.