المصيف هو آخر مكان يمكن تصوُر أن تقوم فيه مظاهرات، فالهارب إلى المصيف يترك وراءه كل ما يمكن أن يدّل عليه، لا يغيّر عنوانه فحسب لكنه يصبح شخصًا آخر.. يبدّل عاداته اليومية ويقاطع الكوّاء والحلّاق والسائق، ولا يدّق أحد جرس الشاليه الذي يسكنه إلا فيما ندر. تأخذ تفاصيل وجبة السمك الشهية اهتمامًا أكثر مما ينبغي، ويتجدد إدمان لقمة القاضي وكأنها ليست متاحة طوال العام، فبعض ألوان الطعام لا نتلذذ بمذاقه إلا حين نأكله في موعده، وهذا هو حال لقمة القاضي الحبيبة، فقط أضيفت لها بدعة النيوتيللا التي باتت تهاجم كل أكلاتنا دون مبرر. في المصيف ننشغل بحال البحر وموج البحر ولون البحر ولا نكّف أبدًا عن مقارنته بنفسه فنقول بالأمس كان أهدأ وأصفى وأمتع أو نقول العكس، نعوّل عليه كي يهاجم همومنا في معاقلها فيجرف منها طبقة ويخففها فتصير علينا أهون، ونحب البحر ونغني له. نعم جميعنا يحب البحر لكن كل منّا على طريقته وحسب ظروفه الاجتماعية ومرحلته العُمرية، فمَن لا يلقي بنفسه في البحر يتأمله، ومَن لا يسترزق منه يتعلم الصبر، ومَن سَلبه البحر شخصًا غاليًا عليه يسامحه حين يلثم الموج أصابعه. إنه الفضاء الأوسع الذي يتجاور فيه لعدة ساعات غرباء لا يعرف بعضهم بعضًا لكن من الوارد جدًا ألا يظلون غرباء، فكم من قصص العشق بدأت داخل البحر أو بدأت على شواطئ البحر. ثم بعد ذلك كله يأتي من يتحدث عن التظاهر في المصيف؟ التظاهر فيه قلق وتوتر وأعصاب مشدودة، والمصيف لا يليق به إلا الاسترخاء، ومع ذلك فلكل قاعدة استثناء.
•••
كانت الساعة تزحف نحو الثانية ظهرًا عندما بدأ المصطافون يتثاءبون ليطردوا بقايا النوم وفق التوقيت المعتمد للساحل الشمالي، أما رواد الإسكندرية فمازالوا على التوقيت الصيفي القديم. داخل مبنى الإدارة في قرية مارينا تجمهر العشرات من أصحاب المحلات التجارية يرفعون مجموعة من المطالب ويهددون سكان القرية في حال عدم الاستجابة لها بالويل والثبور وعظائم الأمور. هذا المشهد يبدو خارج السياق العام للمصيف لكنه ليس خارج سياق التاريخ، فقبل عدة سنوات تكرر هذا المشهد على نطاق أوسع وبشغب أكبر، والمطالب في الحالتين تكاد تكون واحدة وجوهرها فتح بوابات القرية أمام الجميع لتنتعش حركة البيع والشراء ويحدث الرواج.
•••
هذا المنطق هو منطق القوة الذي يحاول أن يفرض نفسه، فمن الذي قال إن السوق تتوازن من تلقاء نفسها في ظل النظم الرأسمالية؟ إن ما يحدث هذه الأيام في مارينا هو نموذج واضح لعدم توازن المصالح بين ملاك وحدات القرية وملاك محلاتها التجارية، أولئك غير هؤلاء وسند الملكية يرتّب لكل فريق مراكز قانونية مختلفة، وفِي غياب إنفاذ القانون تجري محاولة تغيير تلك المراكز. لكن فتح البوابات دون ضابط ولا رابط تحت دعوى الاسترزاق مبدأ خطير يمكن له أن يبرر إشغالات الطريق العام بدعوى القرش الحلال، وقد يبرر حتى البناء المخالف تعظيمًا للمكسب فمازال الإنسان حتى تاريخه أذكى من الآلة، وهو قادر على إخراج مطالبه غير المشروعة بشكل مقبول. وها نحن ننتقل من فوضى المحلات التجارية داخل القرية بأغاني مهرجاناتها المزعجة وأنوارها الموّترة وبضاعتها المعروضة بشكل قبيح- إلى المطالبة بنقل الفوضى إلى بوابات القرية. وهذا ليس كل شيء، فعلى الشواطئ تجري معركة أخرى ومحاولة أخرى للاسترزاق عن طريق الفوضى، معركة لا علاقة لها بمعركة البكيني والبوركيني أو السفور والحجاب، إنها معركة تتوافق فيها مصالح التجار مع مصالح مستأجري الشواطئ في زيادة الزبائن بكل طريقة ممكنة، وآخر هّم أولئك وهؤلاء هو القانون. حتى هذه اللحظة يبدو كما لو كان مصطافو مارينا هم الحلقة الأضعف في معادلة القوة، وهذا جزء فقط من الحقيقة وليس كلها، فأهل مارينا ليسوا كتلة صمّاء، ولا يوجد أى تجمع كتلته صمّاء، فهناك منهم مَن يرتبطون بشبكة من العلاقات والمصالح المتبادلة مع المتربحين المسترزقين من التجار ومستأجري الشواطئ، وهناك مَن يوظفون نفوذهم وصلاتهم الواسعة مع كبار المسؤولين من أجل انتزاع مكتسبات ليست من حقهم: حدائق أكبر، ممر خاص على البحر، وغير ذلك كثير.
•••
يقول البعض إن المصريين يسيرون وراء الدولة ويذهبون إلى حيث تذهب، فعندما تستثمر الدولة في الساحل الشمالي من أول مراقيا حتى مارينا العلمين يمضون في ركابها ويهجرون الإسكندرية ويتركون خلف ظهورهم عروس البحر الأبيض المتوسط، وفي الواقع فإنني لست متأكدة كل التأكد من دقة هذا التحليل، ففي مقابل الاستثمار الحكومي في عدد من قرى الساحل الشمالي هناك وفرة في استثمارات رأس المال الخاص في القرى الأخرى التي تنتشر بطول هذا الساحل كمثل انتشار الفطر. صحيح إن الحركة نحو الساحل بدأت حكومية، لكنها لم تلبث أن أصبحت نقابية (قرى الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات.. إلخ)، ثم تطورت وتحولت بعد ذلك لتصبح حركة خاصة بامتياز. أما عن هجرة الإسكندرية فأظن السؤال الصحيح هو مَن هجر الآخر؟ هل المصطافون هم الذين هجروا الإسكندرية أم أن الإسكندرية هي التي هجرت قطاعًا واسعًا منهم أغلبه ينتمي إلى الطبقة الوسطى وجزء من الطبقة العليا؟ كلنا لدينا ضعف خاص إزاء الإسكندرية، بكوزموبوليتانيتها وتاريخها ومكتبتها ومسارحها ومقاهي أرصفتها وشواطئها ولهجتها المحببة التى تجمع المفرد وتمد الواو على استقامتها: أيووووووووه، لكن الإسكندرية لم تعد تشبه كثيرين منّا بل لم تعد الإسكندرية تشبه نفسها. إن الذين هربوا إلى الساحل الشمالي كان هروبهم هو هروب المضطر الذي يبحث عن حلم الاسترخاء في هدوء لمدة أسبوعين أو ثلاثة بعد عام من المعاناة في البيت والعمل والطريق العام، والذين هربوا من مراقيا لمارينا ثم لهاسيندا وأمواج وما بعدهما فعلوا ذلك طلبًا لنفس الحلم، إنهم ليسوا كائنات فضائية تبحث عن اعتزال المجتمع في جيتوهات مغلقة عليهم لكنهم أناس طبيعيون جدًا لا يريدون حين يذهبون إلى المصيف أن يأخذوا معهم المدن الكبرى بكل زحامها ومشاكلها وضوضائها .
•••
كانت الشمس قد أخذت تتحرك نحو مخدعها حينما انتهى التجمهر داخل مبنى الإدارة في قرية مارينا، على وعد بتكرار الوقفة لحين الاستجابة للمطالب المحددة. وهكذا سيظل الشخص الباحث عن إجازة صيف طبيعية يحمل شمسيته وكرسيه ومنشفته لعله يجد نقطة هادئة يتكلم فيها البحر ويضحك، وقديمًا كان البحر يضحك.