أوصانا بعض الأهل بألا نفّوت "أكلة السمك" عند أحد المطاعم التي ذاع اسمها مؤخرا بالقرب من قرية سيدي كرير بالساحل الشمالي، وأفاضوا في ذكر جمال المكان الذي يقع فيه المطعم ومياه البحيرات تحيط به من كل جانب، وكان الاقتراح يستدعي التفكير، فمن حيث إن أسرتنا تحب أكل السمك فإنها تحبه، ومن حيث إن منظر غروب الشمس واختباءها في مياه الملاحات على قدر عال من الرومانسية فإنه رومانسي وجدير بالمشاهدة، لكن مع ذلك فإن الاقتراح على ما فيه من المغريات كان يحتاج إلى بعض التفكير. بين قرية مارينا حيث لأسرتنا شاليه صغير منذ سنين طويلة وقرية سيدي كرير حوالي ٧٠ كيلومترا، وهذه مسافة كبيرة فهل ضاقت بِنَا الدنيا داخل قريتنا وفي جوارها القريب حتى نشّد الرحال إلى المكان الأبعد؟ أهم من ذلك أن طريق الساحل بعد الغروب يتحول إلى طريق للرعب، شبابنا لا يتعلم أبدا من الحوادث التي تخطف ابنا هنا وأخا هناك، إنهم يسرعون ويتسابقون ويناورون ويلجئونك من الطريق إلى أضيقه ويهدرون كل قواعد المرور وفي الأخير يدفعون هم وأسرهم الثمن، وإنه لباهظ، فهل نحن مستعدون لتقمص شخصية الألماني مايكل شوماخر أسطورة القيادة في العالم ؟ أخذ ورد، وفريق مع الذهاب وفريق ضده، وفي النهاية قررنا أن نيمم شطر سيدي كرير والمثل يقول: ويفوز باللذات كل مغامر ويموت بالحسرات كل جبان .
***
قطعنا الطريق وابتدأ المشوار، صارت على يميننا الآن محلات صغيرة يطلق عليها أصحابها على سبيل التجاوز اسم سوبر ماركت. التقطت عيني من أسماء هذه المحلات اسم "تبوك" واندهشت، فتبوك هذه مدينة تقع في شمال السعودية فكيف تأثر بها صاحب المحل الصغير إلى حد أنه جعل منها اسما لمتجره؟ الأرجح أن أخينا ممن عملوا بالسعودية وفي منطقة تبوك تحديدا وكوّنوا فيها رأسمالا صغيرا استثمروه لاحقا في مصر، ومن هنا جاءت معرفته بمدينة تبوك فليس شرطا أن تكون زرت السعودية لتحج أو تعتمر حتى تعرف تبوك. أعدت رأسي إلى الوراء ورحت أتابع الأسماء، مسلية هذه اللعبة ولها دلالات اجتماعية واقتصادية غير خافية. محلات بأسماء أصحابها الحاج فلان وأبو فلان، ثم ظهر محل" أم القرى"، توجد محلات عديدة في مختلف أنحاء مصر تحمل هذا الاسم تيمناَ بمدينة مكة المكرمة، نتقدم في الطريق وتتوالى الأسماء فيظهر محل "المدينة المنورة" وهذا أيضا اسم له ما يشبهه في العديد من المشروعات التجارية في أنحاء مترامية من المحروسة، يصل الطريق إلى نهايته مع محل "التوبة "... الحمد لله أننا فزنا بها.
***
على الضفة الأخرى من الطريق تتناثر القرى السياحية مثل عش الغراب وتختلف الصورة كثيرا. تحمل هذه القرى أسماء مدن ذات طابع أوروبي "نيس" و"مارسيليا" و"ڤينسيا"، أو تتسمى بأسماء شواطئ ومناطق سياحية أوروبية مثل الريڤييرا في فرنسا ومايوركا وماربيلا وكوستا ديل سول وڤالنسيا وغرناطة في إسبانيا ( يبدو أن معالم إسبانيا تكسب الجميع فهي صاحبة الحظ الأوفر من أسماء قرى الساحل الشمالي) ، قد تفلت قرية هنا أو هناك باسم يقترب من أسماء المحلات التجارية إياها مثل قرية "الروضة" أو قرية "دعاء السماء"، كما قد تجد على الجانب الآخر مجموعة محلات تجارية تحمل نفحات من أصول لاتينية مثل "بلات فورم"، لكن القاعدة العامة هي أن هذه الميلة من الطريق غير تلك. معظم القرى السياحية يتخذ أسماء أجنبية فالشاطئ الذي يترجم فوق لافتات القرى إلى "بيتش" نجده يتخذ أوصافا كثيرة فهو "جرين" و"لونج" و"هليو" و"روزانا" و "دايموند" و"بالم"..إلخ. هذا التباين الذي يبدو بسيطا بين جانبّي طريق الساحل هو جزء من ظاهرة أكبر نلمسها جميعا ونخشي منها جميعا هي أن مصرنا صارت مجموعة من الأمصار، لكل منها ذوقه وقيمه وعاداته وانحيازاته وهويته وامتداداته الخارجية دع عنك اتساع الفجوة الاقتصادية بين مصر وأخرى. حتى مصطلح "مجتمع الساحل الشمالي" الذي كان يُطلَق للدلالة على طبقة مرفهة مُنَعّمة لا تمت بصلة للطبقتين الدنيا والوسطى في المجتمع المصري، هذا المصطلح نفسه مفتت منذ نشأته إلى مجموعة من الجزيئات لكن تفتته زاد. في داخل القرية الواحدة هناك عملية إحلال وتبديل مستمرة لملاك الوحدات وهي عملية تخضع أساسا للمضاربة العقارية، كما أن هناك صعود مناطق وأفول أخرى، ففي داخل قرية مارينا مثلا انتقل الزحام والضوضاء من مارينا ٢ إلى مارينا ٤. وفيما بين القرى توجد عملية فرز لا نهاية لها وآخر تجلياتها أن القرى قبل الكيلو ١٢٠ صارت شيئا وبعد الكيلو ١٢٠صارت شيئا آخر، راحت تماما على ساكني الماقبل وبدأ عصر المابعديات وسبحان من له الدوام. أتذكر الكتاب الشهير لPaul Kennedy في نهاية الثمانينيّات عن "صعود القوى العظمى وسقوطها"، أستبعد كلمتي القوى العظمى في العنوان وأضع مكانهما كلمتي القرى السياحية وأبتسم .
***
ها قد وصلنا إلى وجهتنا حيث رائحة الملاحات تختلط برائحة شواء السمك، طابور الانتظار طويل لكني كنت قد استنفدت قدرتي على الشرود أثناء الرحلة الطويلة من مارينا إلى سيدي كرير ولم يعد لدي استعداد للمزيد. استسلمت للاشيء يشغلني.. ضحكات الأطفال فوق المراجيح تشرح القلب الحزين.. رحت أنتظر حلول المغيب ففيه إبهار لا ينقضي وإن شهدناه يتكرر ألف عام .