من قتل إيفينيا؟ - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:30 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من قتل إيفينيا؟

نشر فى : الأربعاء 22 سبتمبر 2010 - 10:07 ص | آخر تحديث : الأربعاء 22 سبتمبر 2010 - 10:07 ص

 من قتل ديانا أميرة ويلز ومارلين مونرو نجمة هوليوود وأنور السادات رئيس مصر؟ من فرض على مايكل جاكسون فى سنوات عمره الأخيرة الانعزال والاكتئاب؟ من جعل كل مشهور يرحل قبل أوانه أو يشيخ فى مكانه مغضوبا عليه أو محاطا بغلالة النسيان أو حزينا على حاله؟

نحن فعلنا كل هذا وأكثر منه مع بشر اخترناهم لإمتاعنا أو خدمتنا لفترة لا أطول أو لغرض لا أكثر. فعلناه ونحن ما زلنا فى البدائية متوحشين ونفعله الآن ونحن متحضرون. إنها قصة الشعوب مع الشهرة كما سجلها بذكاء ووثقها بمعلومات وكتبها بسلاسة فائقة توب باين Top Payne فى كتاب بعنوان «الشهرة: من العصر البرونزى إلى بريتنى (سبيرز)».

فكرة الكتاب بسيطة وتتلخص فى أن الشعوب تنتقى أبطالها ورموزها وتقوم بتجميلهم وتحميهم وتحيطهم بهالات تبجيل وترفعهم درجة أو أكثر فوق باقى البشر، وإن تعذر عليها تقديسهم وهم أحياء أحالتهم أصناما. وفى معظم الحالات لم تحتملهم طويلا. كانت الشعوب فى عصورها البدائية تفعل هذا مع المنتقين بعناية بالغة لتقدمهم قرابين إلى الآلهة. فالهنود الحمر الذين سكنوا المكسيك كانوا يصنعون البطل ويرفعونه فى حياته إلى مرتبة التقديس ثم يقتلونه. وبعد موته كانت بعض قبائلهم تسلخ جلده ليرتديه كبير من الكبار أو كاهن من الكهنة. ولكنهم فى معظم الحالات لم يقدموا على هذا الفعل قبل أن يكونوا قد انتقوا بطلا جديدا ينسجون حوله أساطير مبتكرة وروايات عن مواهب خارقة ونبوءات عن اقتراب موعد ظهوره.

يعتقد المستر باين أن ما نطلق عليه الآن ثقافة الشهرة ما هو فى حقيقة الأمر إلا الوجه الآخر لثقافة تقديم القرابين. كانت الشعوب القديمة تختار أجمل فتياتها وأقوى رجالها لتقدمهم قرابين حية للآلهة. وتروى برديات وصحائف أثرية أن فتيات وشبانا كانوا يتطوعون ليقع اختيارهم لهذه المهمة النبيلة. بعض هؤلاء كان هو نفسه ساعيا وراء الشهرة. عرف أنه مهما اجتهد فلن يحقق فى حياته شهرة أطول «خلودا» من الشهرة التى ستلحق باسمه وتتناقلها الأجيال وتسجلها جدران المعابد.

فى تاريخنا الفرعونى روايات عن الشعب الذى كان يختار من بين العذارى أجملهن، ويحيك لها أروع الملابس ويضع لها أحلى زينة ويقيم من أجلها الاحتفالات فى المدن والقرى والنجوع ليرقص الناس ويطربون. وتجتمع الفتيات والشبان ليزفوا عذراءهم الفاتنة إلى الموت. ما حدث، بمفاهيم عصرنا، هو أنهم أقنعوا الفتاة بأن ما ستفعله إنما تفعله بمحض إرادتها. سيذكر شعبها بأنها فضلت أن تنوب عنه فى تأكيد رغبته فى الحصول على رضاء الآلهة. كانت الشهرة التى تلحق بعروس النيل بعد انتقائها حافزا لأخريات من العذارى ليتطوعن فى العام التالى. لن أعتب بعد اليوم على الذين يحلو لهم عقد مقارنة بين من يطلق عليهم بالاستشهاديات وعرائس النيل. كل هؤلاء لعبت الشهرة دورا كان فى بعض الحالات حاسما فى اتخاذ قرار الموت شهيدا أو قرار الموت قربانا. وأتصور أنه لا سبيل لفهم هذا الأمر أفضل من مشاهدة أفلام الفيديو التى جرى بعناية إعداد السيناريوهات الخاصة بها وإخراجها وتصويرها قبل تنفيذ عمليات الاستشهاد لتعرض بعدها على جماهير متعطشة لصنع أبطال والتخلص منهم.

يقول المؤلف، وأتفهم ما يقول، أن كلا من آخيل وهرقل ما كانا ليتمكنا من تحقيق انتصاراتهما لو لم تكن الشهرة أحد أهم حوافزهما. وما يقال عن أبطال الزمن القديم يمكن أن يقال عن أغلب الأبطال والقادة فى كل الأزمنة. نابليون مثلا كان عاشقا للشهرة وساعيا إليها. وكان أيضا ضحيتها. وجد تشجيعا من شعب متشوق لبطل. لم يعرف نابليون وقتها أن الشعب الذى سيمنحه الشهرة ويضعه عند أعلى مستوى هو الذى سيسوقه إلى نهايته الأليمة.

هنا فى بلادنا وفى عصرنا كان الرئيس السادات هو الآخر عاشقا للشهرة منذ صغره. شجعناه واشتركت معنا فى تشجيعه شعوب العالم الغربى، أحلناه إلى أسطورة بعد أن جملناه وأسبغنا عليه صفات البطولة والشجاعة ثم سقناه أمامنا إلى مذبحة القرابين ووقفنا نتفرج على المشهد الدامى، مشهد نهاية قصة أخرى من قصص الشهرة.

أسأل نفسى أحيانا هل كان يمكن أن تكون قراءة التاريخ هواية ممتعة لو خلت صفحاته من شخصيات تعبد الشهرة ومن ثقافة تقديم القرابين.

تخيلت كم يكون مملا تاريخ فرنسا بدون التفاصيل التى نعرفها عن صعود مارى انطوانيت وروبسبير وسقوطهما الدامى، ومن قبلهما كانت جان دارك التى قدسوها ثم حرقوها. تخيلت أيضا تاريخ إيطاليا خاليا من سير صعود وهبوط لرسامين عظام وبابوات فى الفاتيكان وقادة تاريخيين من نوع بينيتو موسولينى الذى علقه أبناء شعبه فى مشنقة بعد عشرين عاما من الشعبية الجارفة. تخيلوا كم تكون سخيفة قراءة تاريخ للأرجنتين لا يحكى أسطورة إيفا بيرون، كيف سخروا لها آليات الشهرة حتى اشتهرت وأبدعت فاستولت على قلوبهم فقدسوها، وكيف أنها فوتت عليهم فرصة ذبحها على مذبح القرابين ففاجأتهم بموتها بالسرطان وهى فى قمة الشهرة. ومع ذلك خافوا أن تبقى مشهورة بعد وفاتها فنبشوا ضريحها وخطفوا جثمانها وأشاعوا أنهم وضعوه فى صندوق حديدى ألقوا به فى موقع عميق فى نهر لابلاتا وأعدموا الطيار الذى نفذ المهمة حتى لا يعرف أحد مكانها.

قرأ بعضنا حكاية أو أسطورة إيفينيا عذراء إسبرطة حين جاءها أبوها ليلة زفافها بينما المدينة بأسرها تستعد للاحتفال بزواج أجمل أميراتها إلى آخيل أعظم أبطالها، جاء يطلب موافقتها على أن يقدمها للآلهة قربانا. قال لها إن شهرتها بين الناس ستزداد إن هى ماتت قربانا فى ليلة زفافها. وقال أيضا أن موافقتها ستشعل حماسة الشعب فيصير سهلا حشده لمساندة حملته العسكرية التى يستعد لشنها ضد مدينة طروادة. ما أروع مقطع من قصيدة عن ايفينيا فى مسرحية إغريقية يقول «..وسوف يخلد اسم العذراء.. تموت صغيرة وجميلة.. ولكن ستعيش إلى الأبد.. وكذلك سيعيش شعبها سعيدا.. وفى رخاء»

الشعوب تصنع الأبطال وتكسبهم الشهرة لبعض الوقت أو لمهمة محددة، ثم تمل إن لم يملوا وأفسحوا طريق الشهرة لآخرين. هم لا يعرفون، ولكن الشعوب تعرف، أن كل طرق الشهرة تمر بمذبح القرابين.. وكثير منها ينتهى عنده.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي