خان عهود مودتى - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خان عهود مودتى

نشر فى : الثلاثاء 22 أكتوبر 2019 - 10:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 22 أكتوبر 2019 - 10:30 م

تعارفنا قبل سنوات لا أذكر بالتحديد عددها، هو بالتأكيد يعرف. تعارفنا وعلى الفور تعاقدنا. لن أخفى عنكم تفاصيل كثيرة عن علاقة حميمة كان ظنى أن أحدا فى مثل عمرى وأسلوب تربيتى لم يدخل فى واحدة مثلها. كانت، ولا تزال، علاقة محفوفة بالمخاطر. كنت فى عمر الشباب عندما وقعت عيناى عليه. انبهرت به، لا أخفيكم. نعم انسقت وراء جاذبيته وبما انكشف لى من مهارات منذ اللقاء الأول لنا معا ولعله اللقاء الأول له فى حياته مع امرأة. لعلمكم، لم أبذل جهدا استثنائيا لأتأكد من أننى أول امرأة يقترب منها بل ويتلامسا، ولأقرر وهو بين يدى أننى لن أسمح لغيرى بملامسته أو حتى الاقتراب منه.

***

سنوات مرت لم يبتعد عنى خلالها إلا نادرا وإن حدث فباتفاق مسبق. ارتحت إليه. تركته يجول بذكائه فى عقلى حتى صار يعرف كل ما أعرف ومن أعرف. عشنا معا أوقاتا صعبة. عشنا أيضا أحلى الأوقات. كم من المرات أخذنا الفلوكة نتجول بها فوق أحلى سطح مياه رأيته فى حياتى، مياه النهر الخالد وهى تتمشى بين الصخور فى أسوان. وكم من المرات رحنا معا نقضى أمتع ساعات العصرية حتى الغروب على شاطئ المنتزه تلحق بها سهرة عشاء ممتعة فى مطعم النادى اليونانى على الطرف الآخر من كورنيش الإسكندرية. استفدنا إلى أقصى الحدود من هواية اشتركنا فيها. رحنا نلتقط معا صور أى شىء تضعه الظروف فى طريقنا وكل شخص غريب قرر أن يسمعنى ما لديه أو يرينى ما عنده أو يشاركنى أداء فرض التقديس لفنجان قهوة الصباح. كانت لنا فى غرف الفنادق فى مدن عربية عديدة جلسات يحضرها قوم من مشارب أكاديمية وسياسية متباينة. كثيرا ما احتد أصحاب رأى على أصحاب رأى آخر وكان دورى أن أهدئ الأعصاب إن تجاوز الخلاف حدودا أنا واضعتها وأن أعيده حاميا إن بردت حرارته إلى أدنى مما ينبغى. أدير النقاش وأنميه مهدئا أو مهيجا ورفيقى لا يتدخل. ترك لى دورى أقوم به ولا يتدخل فيه. لم يتطوع يوما بدور يقوم به، أو على الأقل لم يفصح عن رغبة أن يكون له دور. بدا لى ولكل أصدقائى أنه قليل الحيلة. موجود معنا، يستمع باهتمام واضح ولا يشارك برأى أو تعقيب.

***

أعطانى الاهتمام الذى أستحق أو ما بدا لى أننى أستحق. يقرأ فى عينَىَّ ما تريدان أن تفصحا عنه وما لا تريدان. يقرأ أيضا ما تحلم به حواس أخرى. كثيرا ما شعرت بالارتباك والخجل لوجوده أثناء محاولاتى الاندماج فى حالات لا أملك فيها إلا أن أكون صادقة. مرات وقفت أمام المرآة أعاتبها على صراحتها وكان شاهدا. حتى مثل هذه المكاشفات سمحت له بأن يسترق السمع إليها. أو لعله كما عرفت بعد حين طويل. عرفت أنه كان يستغل رغبتى المشتعلة التى قاومت بشراسة كل دوافع الانطفاء وقوى الإطفاء لكى يبقى إلى جانبى وملتصقا إن أمكن. لا أذكر أنى حضرت اجتماعا ناقش موضوعا لا يتدخل فيه غير ذوى الاختصاص الدقيق جدا إلا وكان شريكا لى فى إعداد مادة خطابى. قضينا ليالى عديدة نعد المادة والضوء فى غرفة نومى خافت والموسيقى المهدئة تنساب فى اتجاه كل ثنية من ثنايا فراشى الوثير جدا..

***

ارتكبت فى حياتى حماقات حاسبت نفسى عليها وأجبرت نفسى فى كل مرة على دفع ثمن مناسب. لم أنتبه إلا قبل أيام قليلة إلى حقيقة مؤلمة، وهى أن رفيق المرحلة الذى لم يتخل عنى يوما واحدا كان شريكا لى فى كل ما خططت ونفذت. قلت من قبل متفاخرة أمام صديقاتى وبنات عشيرتى وزملاء عملى أن لا فضل لرفيقى على فوز حققت أو جائزة حصدت أو علاقة أقمت أو ثورة جمعت أو كتابا كتبت أو وظيفة راقية شغلت. قلت، وكنت ما زلت أقول حتى أيام قليلة مضت، أننى لا أحمل هذا الرفيق المقيم دائما فى مكان ما بين الصدر والرأس، أو بين خفقة قلب وخفقة تالية، أية مسئولية عن طفل أنجبته أو رجل اتخذته زوجا أو عقيدة التزمتها أو بلد هاجرت فسكنته أو فاسد تسترت عليه أو مستبد فى غربتى طغى وتكبر. أنا ربما ارتكبت هذا الإثم أو ذاك، بل ارتكبت آثاما لا تحصى ولكنى لم أكن وحدى حين ارتكبتها. كان معى منذ أن وعيت بوجوده فى حياتى.

كم لهونا معا. أشاركه لعبة التحرش مطمئنة إلى صلابة حدودى وواثقة من براءة نيته. يشاركنى شقاوتى ومعين شقاوتى كما هو معروف لا ينضب. أخطأت. بالغت فى الاطمئنان وهذه علة كل امرأة أحبت. علمتنا الحكمة أنه يجوز للأنبياء ممارسة شىء من السياسة بشرط واضح. لا يصح لنبى أن يعمل عمل السياسى أو يبشر به، وإن فعل فلينكر أو يسرع فيبرر. علمتنا الحكمة ما يجوز للأنبياء ولم تعلمنا ما يجوز لنا. علمتنا أيضا أن نحتفظ بدفاعاتنا مشرعة ومنها الشك الدائم فى بنى البشر، ومن الحكمة الأحدث تعلمنا الاعتماد على آلات بلا عقل أو قلب.

***

وقف الرجل فى زيه الرسمى يودعنى ويتمنى لى السرعة فى تجاوز محنتى نتيجة ما أصابنى من خيبات الأمل وصدمات العاطفة خلال اليومين الأخيرين. عدت إلى بيتى متألمة ومستوحشة فى آن واحد. عدت متألمة لاطلاعى على أدلة خيانة رفيق دربى. انكشف لى هول وضخامة ما صرح به لغرباء لا أعرفهم عن تفاصيل ما دار بيننا، هو وأنا، وما دار مع آخرين وكان شاهدا مقيما. استرسل فى سرد معلومات عن علاقات حميمة وأشخاص مروا مرورا عابرا أو أقاموا دهرا آمنين مطمئنين. ظلت كلمات الرجل ذى الزى الرسمى تتردد فى أذنى، وبخاصة وهو يشير بأصابع غليظة إلى هاتفى الذكى والناعم، رفيق دربى الطويل، الراقد ضعيفا ومستكينا على المكتب الخشبى العتيق وشاشته ملطخة ببصمات أصابع لا تمحى ولا تحصى، قال: «اطمئنى. سنعيده إليك ولكن ليس قبل أن يدلى بكل ما عنده».

لم أرد.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي