جورج فريدمان
دخلنا الآن فى المرحلة النهائية من رئاسة باراك أوباما، وهى تنتهى مثلها مثل فترات رئاسة عدة رؤساء آخرين منذ الحرب العالمية الثانية بما نسميه حالة من الفشل. وليس حكما على رئاسته بقدر ما هو على التكوين السياسى داخلها والمحيط به.
فقد انتهت انتخابات الكونجرس النصفية، وصار الكونجرس والرئيس عاجزين عن الحركة. ولا يعتبر هذا فى حد ذاته أمرا خطيرا. فقد وجد رؤساء ذوو شعبية مثل دوايت ايزنهاور، أنفسهم فى هذه الحالة. وتحدث هذه المشكلة عندما لا يقتصر الأمر على الانقسام المؤسسى فقط ولكن يحدث أيضا تحول فى الرأى العام ضد الرئيس. وهناك العديد من التحليلات المتطورة عن الرأى العام فى السياسة، لكننى وجدت أنه من المفيد استخدام هذا النموذج التنبؤى.
تحليل قوة الرئيس
بافتراض أن كلا من الحزبين يحظى بتأييد 40 فى المائة من الناخبين، فلا يتبع عشرون فى المائة أيا من الحزبين، ولا يبالى نصف هؤلاء بنتائج السياسة، والنصف الآخر يهتم لكنه متردد. وفى معظم الظروف العادية، تتركز المعركة الحقيقية بين الحزبين على احتفاظ كل منهما بقواعده، وكسب أكبر قدر ممن يقفون فى المنتصف.
وما دام الرئيس ينافس على المحايدين، تظل قدرته على الحكم سليمة. وبالتالى، فمن الطبيعى بالنسبة لأى رئيس أن يكون تصنيف شعبيته أقل من 60 فى المائة ولكن أكثر من 40 فى المائة. وعندما ينخفض تصنيف شعبية الرئيس إلى أقل من 40 فى المائة بكثير، ويظل هكذا لفترة طويلة من الزمن، تتغير ديناميات السياسة. حيث لم يعد الرئيس يسعى لكسب المحايدين ولكنه يكافح من أجل الاحتفاظ بمؤيديه ويفشل فى ذلك.
وعندما يتفتت تأييد الرئيس إلى حد أنه يكافح لاستعادة قاعدته، فأنا اعتبر ذلك رئاسة فاشلة ــ خاصة عندما يكون الكونجرس فى أيدى المعارضة. حيث لا يمكنه توجيه طاقته نحو مبادرات جديدة، وإنما نحو استعادة قاعدته. ومن غير المرجح أن يتعافى الرؤساء الذين هبطوا إلى هذه الحالة قرب نهاية رئاساتهم، ويعاودوا اكتساب الأصوات المحايدة.
وتاريخيا، عندما ينخفض تصنيف شعبية الرئيس إلى نحو 37 فى المائة، يكون استعادة موقفه ميئوسا منها، وهذا ما حدث لجورج بوش فى 2006. وما حدث لريتشارد نيكسون فى 1974 عندما أدت أزمة ووترجيت إلى استقالته، وليندون جونسون فى 1967 خلال حرب فيتنام. حدث ذلك أيضا لهارى ترومان فى عام 1951، بسبب الحرب الكورية أساسا، وهربرت هوفر قبل الحرب العالمية الثانية بسبب الكساد العظيم.
غير أن ذلك ليس حكما تاريخيا نهائيا على الرئاسة. حيث ينظر الآن إلى ترومان، الذى لم يحظ بشعبية هائلة ولم يستطع الترشح لولاية أخرى، باعتباره واحدا من خيرة الرؤساء الذين حكموا الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، لم يتحسن موقف نيكسون أبدا. وبالتالى، ليس هذا حكما على مكانة أوباما فى التاريخ، ولكن على وضعه السياسى الحالية. كما أنه لا يؤدى لخسارة الرئاسة؛ فقد هزم جيمى كارتر على الرغم من شعبيته ظلت أعلى من 40 فى المائة بكثير.
رئاسة أوباما
ومن بين الرئاسات الخمس الفاشلة التى ذكرتها، فشلت واحدة بسبب فضيحة، وأخرى بسبب الاقتصاد، وثلاثة بسبب حروب - كوريا وفيتنام والعراق. وتعتبر حالة أوباما أقل وضوحا. فقد عارضته نسبة الـ40 فى المائة التى تميل إلى المعارضة لمجموعة من الأسباب. وخسر الأصوات المحايدة لأسباب معقدة أيضا. ومع ذلك، بمراجعة توقيت انحداره، نجد أن الحدث الذى ربما كان له ذلك التأثير، صعود الدولة الإسلامية، والشعور حتى فى حزبه أنه لم يبد أى استجابة فعالة لذلك. كما يبدو لى أن أوباما قد سقط فى هاوية سياسية، بسبب الحرب فى العراق لأنه بعد ثمانى سنوات من الحرب، بدا أنه لا يملك سيطرة عليها.
كما يمتد الفشل إلى السياسة الداخلية كذلك. حيث يسيطر الجمهوريون على البرلمان ويمكنهم تمرير التشريعات التى يحبونها، ولكن الرئيس يحتفظ بحق النقض، ويجب أن يصوت ثلثى أعضاء المجلسين للتغلب عليه. والمشكلة أنه، بالنظر إلى نقص شعبية الرئيس ــ وحقيقة أنه ستجرى خلال عامين انتخابات رئاسة، وجميع أعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ ــ لن يكون حلفاء الرئيس فى الكونجرس على استعداد تحمل مسئولية دعم اعتراضاته. وكما لا يوجد من بين الديمقراطيين من يريد من أوباما دعم حملته الانتخابية، لايوجد من يرغب الانضمام إلى الرئيس فى الاعتراض على تشريعات الأغلبية. ولا شك أن ما حطم ترومان وجونسون ونيكسون، اللحظة التى أصبح واضحا فيها أن قادة حزبهم فى الكونجرس يريد منهم الرحيل.
العمل ضمن قيود
ولا يعنى هذا أن الرئيس لا يمكنه أن يعمل. ولكن يعنى ببساطة أن العمل أصبح أكثر صعوبة من قبل. فقد حل جيرالد فورد، محل نيكسون، ولكن اضعفه العفو عن سلفه، ولم يستطع منع الكونجرس من قطع المساعدات عن فيتنام الجنوبية خلال الهجوم الشيوعى النهائى. وكان جورج دبليو بوش قادرا على إطلاق الطفرة فى النمو الاقتصادى، ولكن كان الارتفاع محدودة الحجم، ليس فقط بسبب الظروف الاستراتيجية لكن أيضا لأنه قد فقد القدرة على إجبار الكونجرس على تمويل توسعات حربية بديلة. وفى كل الرئاسات التى فشلت، كان لدى الرئيس القدرة على التصرف، ولكنه كان مقيدا بالتهديدات من كونجرس تسيطر عليه المعارضة وحزبه الذى لا يرغب فى الاصطفاف معه.
وفى الوقت نفسه، يمكن لبعض المبادرات الدبلوماسية الأجنبية أن تستمر. فقد بدأ نيكسون المفاوضات بين مصر وإسرائيل لتى وصلت إلى أوجها، تحت ظل إدارة كارتر، فى كامب ديفيد. وحاول ترومان فتح مفاوضات مع الصين، ولم يكن لفشل المبادرة علاقة بمعارضة تسوية تفاوضية فى كوريا. وليس لدى خيارات محلية تذكر. فمهما كان لديه من سلطة محليا، يمكن أن يصوت الكونجرس لقطع التمويل، وإذا استخدم الرئيس حق نقض قانون، سيعرض الديمقراطيين فى الكونجرس للخطر. وتعتبر السياسة الخارجية المجال الوحيد الذى يمكنه التحرك فيه، وهو على الأرجح المجال الذى لا يستريح أوباما إلى العمل فيه.
وتتمثل استراتيجية أوباما العامة فى الانسحاب من الصراعات القائمة فى الشرق الأوسط واحتواء التحركات الروسية فى أوكرانيا والحد منها. ولدى الرئيس القدرة على ممارسة الضغوط العسكرية وغيرها. ولكن خصوم الولايات المتحدة يدركون أن الرئيس الحالى لم يعد يمتلك السيطرة على واشنطن، فأمامه موعد محدد لإنتهاء ولايته، ومن المرجح أن خليفته سوف يتنصل من تصرف يقوم به لا يحظى بشعبية. وبالتالى، ففى مثال الصين وكوريا الشمالية، كان مواصلة الصراع والتفاوض مع الرئيس المقبل خيارا عقلانيا. وفى نفس السياق، اختارت إيران أن تنتظر لانتخاب رونالد ريجان بدلا من التعامل مع جيمى كارتر (الذى لم يكن رئيسا فاشلا).
ويعتمد هذا النموذج على امتلاك الخصم للموارد والإرادة السياسية اللازمة لمواصلة الصراع من أجل التفاوض مع خليفة الرئيس، بافتراض أن خليفته سيكون أكثر ليونة. وغالبا ما ينجح ذلك، حيث يمكن أن يقدم الخليفة بسهولة تنازلات أكبر من سلفه، ويلقى باللوم على سلفه لاضطراره إلى هذه التنازلات. ومن المفارقات، أن أوباما استخدم هذا الأسسلوب بعد أن حل محل جورج دبليو بوش. وفى كثير من الأحيان، يحاول الرئيس الفاشل دفع العدو للتفاوض من خلال زيادة الضغط العسكرى. وقد استخدم كل من ترومان، وجونسون وجورج دبليو بوش هذه الطريقة عندما كانوا يسعون لإنهاء حروبهم. ولم تنجح المحاولة فى أى حالة، ولكن لم يكن لديهم ما يخسرونه سياسيا خلال المحاولة.
ومن ثم، إذا اتبعنا الأنماط التاريخية، فإن أوباما سوف يمضى قدما الآن ببطء وعلى نحو غير فعال لزيادة العمليات العسكرية فى سوريا والعراق، فى حين يفرض ضغطا غير عسكرى على روسيا، أو ربما يشرع فى بعض الأنشطة العسكرية على مستوى منخفض فى أوكرانيا. وسيتم التخطيط لتحركات من أجل إنجاز عملية التفاوض السريع التى لن تحدث. حيث ستنتقل الرئاسة إلى الحزب الآخر، كما حدث مع ترومان وجونسون وجورج دبليو بوش. وبالتالى، سوف يستعيد الجمهوريون الرئاسة. وهو أمر مألوف فى الكونجرس، يعنى أن الديمقراطيين فى المجلس التشريعى سوف يركزون على إدارة الحملات الخاصة بهم بعيدا عن أوباما والمرشح الديمقراطى للرئاسة القادمة بقدر الإمكان. وبالتالى، لا تعتبر فترة الرئاسة الفاشلة وقتا هادئا؛ حيث يسعى الرئيس بنشاط لإنقاذ إرثه فى مواجهة الضعف الداخلى الهائل. بينما لا ترى البلدان الأخرى، وبخاصة الخصوم، سببا كافيا لتقديم تنازلات للرؤساء الفاشلين، ويفضلون التعامل مع الرئيس القادم. ويستخدم هؤلاء الخصوم المعارضة العسكرية والسياسية فى الخارج للمساعدة فى تشكيل اتجاهات حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة لصالحهم.
وسوف تجرى جميع الأنشطة المحلية على هذا الأساس. ويحتفظ الرئيس بحق النقض، وإذا كان حريصا فسيكون قادرا على الاحتفاظ به. وسيكون انخراط أوباما فى السياسة المحلية محدودا، ويحصر نفسه فى قضية أو اثنتين تحت ضغوط شديدة من الديمقراطيين فى الكونجرس. وسوف يتعلق نشاطه الرئيسى بسوريا والعراق وروسيا، سواء بسبب الأزمات أو الرغبة فى أن يترك وراءه إرثا.