الصين على طريق العالمية - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:50 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الصين على طريق العالمية

نشر فى : الأربعاء 22 نوفمبر 2017 - 10:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 22 نوفمبر 2017 - 10:20 م
قرأت عن فيلم أنتجته الصين مؤخرا يحكى عن بطولات مقاتلين صينيين وتضحياتهم دفاعا عن مبادئ بلدهم ومعتقداتها ومكانتها فى العالم. الشخصية المحورية فى الفيلم، وربما فى سلسلة هذا النوع من الأفلام، ينهض بها مقاتل من نوع الشخصيات التى مثلت أدوار رامبو. بطل شجاع أقسم يمين الولاء لبلده وتدرب على جميع أشكال القتال ومختلف الأسلحة الحديثة ومستعد تماما للعمل فى أقسى الأجواء والمواقع. يؤمن كلية بأهداف بلاده الإنسانية وبحقها الكامل فى حماية مصالحها المشروعة ضد عصابات الجريمة وتجارة المخدرات وتهريب الأسلحة. 

***

أفهم أن هذا النوع من الأفلام التى أنتجته هوليوود تستهدف به الرأى العام الأمريكى بصفة أساسية والرأى العام العالمى أيضا. كان ضروريا فى مرحلة هامة من مراحل فرض الهيمنة الأمريكية أن تكسب أمريكا رضاء الرأى العام الأمريكى عن سياسات التوسع والتدخل فى شئون مختلف دول العالم. كانت التكلفة ــ تكلفة الهيمنة أقصد ــ باهظة ولا تزال. احتاج تمويلها إلى دعم دافع الضرائب الأمريكى. بدون هذا الدعم ما كان يمكن للولايات المتحدة الاشتراك فى الحرب العالمية الثانية، وبدونه ما كان يمكن حشد المجهود الحربى الهائل الذى غيرت به مجرى الحرب لصالح الحلفاء. أذكر أننا كأطفال كنا نخرج من دور السينما فخورين بجيوش أمريكا التى حققت انتصارات وكشفت لنا نحن الأجانب عن بطولات وإنجازات، فى وقت عجز فيه إعلام النازى عن تقديم صورة مماثلة أو حتى مناسبة. عشنا بعد الحرب العالمية مرحلة غسيل مخ سيطرت خلالها حملة إعلامية لعبت الدور الأهم فى صياغة الاستراتيجية الغربية فى مواجهة استراتيجيات الاتحاد السوفييتى فى الحرب الباردة. 

على الصعيدين الداخلى والخارجى أمكن خلق رأى عام أمريكى مستعد للتضحية من أجل دعم دولة تسعى لتنفرد بقيادة العالم، دولة أغنى وأقوى وقادرة على توفير فرص كبيرة وعديدة للاستثمار والعمل للأمريكيين. أمكن أيضا خلق رأى عام عالمى منبهر بضخامة القوة الأمريكية، مستسلم لها أو أكثر استعدادا للتعاون أو التحالف معها، داعم لمواقف وعقائد يدافع عنها المقاتلون الأمريكيون المنتشرون فى جميع أنحاء العالم، أو هكذا نجح الإعلام الأمريكى فى نشرها وتعميقها إلى أن جاءت مرحلة الانحدار فى المكانة العالمية لأمريكا. جربت هوليوود ومؤسسات الإعلام وقفها ولم تفلح. كانت معظم الجهود الإعلامية والسياسية، ولا تزال، متواضعة فى مواجهة رأى عام أمريكى ودولى غير راض عن ضخامة تكلفة قيادة أمريكا للنظام الدولى وتواضع إنجازاتها وضخامة خسائر حروبها وتدخلاتها الخارجية خلال سنوات ما بعد نهاية الحرب الباردة، سنوات الانحدار الأمريكى.

***

جيل محظوظ هذا الذى أنتمى إليه. شهدنا مراحل صعود دول إلى مصاف الدول العظمى، وشهدنا مراحل انحدار دول عظمى. وفى الحالتين كنا شهودا على ما رافق الصعود والهبوط من أحداث وأحيانا زوابع وعواصف خربت ودمرت مدائن وحضارات ومزقت خرائط وبعثرت شعوبا وقبائل. شهدنا القوة الأمريكية مكتملة على امتداد نصف قرن. لم نشهد لحسن الحظ الظلم والعنف اللذين كانا من أهم سمات مرحلة بناء الأمة القوية والغنية والموحدة. لم نشهد حروب وصفقات التوسع الاستعمارى والاستيطانى. أمريكا مثل دول استعمارية أخرى اختارت قارة تكون بمثابة نقطة ارتكاز لإمبراطوريتها. بريطانيا اختارت آسيا وبخاصة الهند. فرنسا اختارت أفريقيا وبخاصة الجزائر. الأتراك اختاروا أوروبا وبخاصة بلاد البلقان وكذلك الشرق الأوسط فأقاموا إمبراطوريتهم العثمانية. إسبانيا اختارت الأمريكتين ثم اكتفت بواحدة منهما إلى أن طردتها منها الولايات المتحدة، القوة الإقليمية الصاعدة فى نصف الكرة الغربى فى القرن التاسع عشر. هولندا والبرتغال بدأتا رحلتيهما الاستعمارية مثل بريطانيا فى آسيا. هولندا استقرت فى جزر الهند الشرقية، إندونيسيا فيما بعد، والبرتغال اختارت جيوبا فى الإمبراطورية البريطانية منها جزيرة ماكو فى الصين وجوا على الشاطئ الغربى للهند. أما الولايات المتحدة فاختارت القارة الأمريكية بأسرها قاعدة ارتكاز تطلق منها لتهيمن وتستعمر وتفرض الحماية وتسحبها. لعلها الدولة العظمى الوحيدة، وربما الإمبراطورية الغربية الوحيدة منذ العصور القديمة، التى تكلفت الكثير جدا فى وقت قصير جدا. 

***

شهدنا أيضا انحدارا ثم سقوط دول عظمى. كنا فى سن الشباب عندما أسقطت بريطانيا لقب العظمى ومعلنة انسحابها من شرق السويس، أى من آسيا. لم نشهد بداية الانحدار فى سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى، ولكننا نذكر ثورات الهنود لانتزاع الاستقلال ونجاحهم فى تحقيق ذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. نذكر أيضا جهود الشعوب العربية التى انتهزت فرصة انتصار مبادئ الغرب وبخاصة مبدأ الحق فى تقرير المصير لتحصل على استقلالها. كنا شهودا على مرحلة رائعة. شهدنا خروج فرنسا من شمال أفريقيا ومن معظم مستعمراتها فى أفريقيا، وخروج إيطاليا من ليبيا والصومال. سمعنا عن سقوط إمبراطورية اليابان الآسيوية واستسلام اليابان وقبولها اعتزال وظيفة السعى للهيمنة. 
***
لاحظنا عددا من الملاحظات على عمليات صعود وانحدار وسقوط الدول العظمى والإمبراطوريات الشهيرة أجملها فيما يلى عساها تساعدنا فى فهم ما يحيط بنا من تغيرات وتحولات وكوارث. لاحظنا أولا: أنه فى كل حالات ومحاولات الصعود لمواقع القيادة الدولية كانت الدولة الساعية للصعود حريصة على تعزيز مصادر قوتها الداخلية واستكمال عملية بناء الدولة وبناء قوة عسكرية مؤثرة وتشكيل رأى عام داخلى مستعد لتقديم تضحيات فى سبيل هدف الصعود ومقتنع بمنظومة أخلاقية أو سياسية أو أيديولوجية تستحق نشرها فى الخارج وبذل الجهد لحمايتها. 
لاحظنا ثانيا: أن معظم الدول التى سعت للصعود دوليا حرصت على أن تحتل مكانا متقدما فى قيادة الإقليم الذى تنتمى إليه أو تقع فيه. حدث فى حالات كثيرة أن دولا طموحا حاولت الصعود قفزا دون المرور بمرحلة القيادة الإقليمية أو تحقيق نفوذ واسع فى الإقليم، هذه الدول فشلت فى الصعود إلى مواقع الدول العظمى وظلت قوة هامشية، وغالبا ما تكون قد كلفت مجتمعاتها وشعوب ودول الإقليم تكلفة باهظة وكوارث جمة. إيطاليا نموذج وإلى حد ما فرنسا على عكس الولايات المتحدة وبريطانيا، هذه الأخيرة التى نجحت فى استثمار وضعها كدولة موازن فى النظام الأوروبى، وهو الوضع الذى أهلها لاحتلال مكان فى القيادة الدولية لقرون عديدة. 

لاحظنا ثالثا: أن الدولة الصاعدة تسعى أول ما تسعى نحو مصادر للطاقة والمادة الخام والتحكم فى الممرات البحرية الحساسة عن طريق الاحتلال المباشر للدول الواقعة عليها أو بأساليب أخرى كالوجود والمراقبة من بعد غير بعيد. لاحظنا مثلا الاهتمام الفائق للصين بالقارة الأفريقية وبخاصة ساحلها الشرقى، وهو الأمر الذى ينطبق بدرجة أو أخرى على مساعى كل من تركيا وإيران لخلق نفوذ فى القارة تمهيدا لغرس أو تعزيز نفوذ أوسع فى مناطق أخرى. 

لاحظنا رابعا: أن لا دولة غالبا صعدت أو حاولت الصعود إقليميا أو عالميا إلا واشتبكت فى حرب أو عمليات عنف واسعة. أمريكا صعدت فى أعقاب حرب عالمية وبعد سنوات من حرب أهلية. ألمانيا حاولت الصعود فى أعقاب حرب عالمية انهزمت فيها. اليابان قررت الصعود فى أعقاب حربها مع روسيا عند مطلع القرن العشرين. روسيا اشتبكت مع دول الغرب عندما جربت الصعود قفزا بمغامرتها فى شبه جزيرة القرم فى القرن التاسع عشر ومحاولتها التأثير فى ميزان القوى الأوروبى، عادت تحاول تكرار المغامرة قبل سنوات قليلة وهى تستعد لاحتلال دور قيادى فى النظام الدولى الجديد، فراحت تعزز مكانتها الإقليمية أولا بالتدخل العنيف نسبيا فى جورجيا وأوكرانيا وبتدخل أقل عنفا فى دول جوار أخرى. مصر تعرضت لخسائر هائلة عندما أقدمت على فرض هيبة ومكانة لها فى النظام العربى قبل أن تؤمِّن حدود نفوذها الإقليمى ضد الدول العربية المناهضة لإيديولوجيا القومية العربية وضد عدوها الإسرائيلى باعتباره النقيض للنظام العربى والأيديولوجيا القومية العربية. ضربها خصومها فى حرب مع إسرائيل فضلا عن النزيف التى تعرضت له فى حربها باليمن. كذلك العراق أصابه ما يشبه الدمار منذ اللحظة التى أعلن قائده النية فى الصعود بالعراق نحو دور ومكانة قيادة النظام الإقليمى العربى.

***

قدر هذا الجيل الذى أنا منه أن يكون شاهدا على الظروف المحيطة بمحاولة صعود الصين إلى مكان فى القيادة الدولية من جهة ومحاولة صعود أقطاب جدد، هى تركيا وإيران والسعودية إلى قمة نظام إقليمى فى طور النشأة. أكاد بشيء من التركيز والتدقيق أرى الملاحظات التى سجلتها على الظروف والشروط التى أحاطت بصعود وانحدار وسقوط دول عظمى دولية وإقليمية، أكاد أراها منطبقة على الحالتين: الترتيبات النهائية فى محاولة الصين الصعود إلى القمة والترتيبات الابتدائية فى محاولة تركيا وإيران والسعودية وإسرائيل احتلال قيادة نظام إقليمى لم ينشأ بعد.

 

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي