جرنيكا - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 3:35 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جرنيكا

نشر فى : الأربعاء 22 نوفمبر 2023 - 7:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 22 نوفمبر 2023 - 7:20 م
فى منتصف العقد الثالث من القرن الماضى كانت أوروبا وكأنها قابعة على فوهة بركان على وشك أن يثور. بدأت ألمانيا تتمرد على الشروط المهينة المجحفة التى فرضت عليها فى معاهدة فرساى، وبدأت تتسلح من جديد ووصل هتلر والحزب النازى إلى الحكم ومن قبله وصل موسولينى وحزبه الفاشى إلى الحكم فى إيطاليا. فى وسط هذه الأجواء تفجرت أولى شرارات البركان فى عام 1936 فى إسبانيا بوصول حكومة اشتراكية يسارية إلى الحكم، رفضتها القوى الملكية واليمينية وانقلب عليها الجيش بقيادة الجنرال فرانكو ذى النزعات الفاشية، فاندلعت الحرب الأهلية بين الطرف اليسارى الذى وصل إلى الحكم بالانتخابات والذى يدعو إلى الجمهورية والطرف اليمينى الملكى.
سببت الحرب قلقا كبيرا على الساحة الدولية وتفاعلا شعبيا خوفا من أن تسود الفاشية فى بلد أوروبى كبير ثالث بعد ألمانيا وإيطاليا مما يخل بتوازنات القوة، وأبدت فرنسا وبريطانيا ترددا فى تقديم الدعم ضد القوى الفاشية خوفا من استفزاز ألمانيا من جانب وخوفا من دعم القوى الاشتراكية من جانب آخر، إلا أن المتطوعين تدفقوا على إسبانيا لدعم القوى الجمهورية ومنهم رموز أدبية معروفة منهم أندريه مالرو من فرنسا، وجورج أورويل من بريطانيا، وإرنست همينجواى من الولايات المتحدة. وفى الولايات المتحدة تشكل لواء لنكولن Lincoln Brigade من أعضاء الحزب الشيوعى ومن الناشطين فى نقابات العمال وذهب ليقاتل مع الجانب الجمهورى بقيادة Robert Hale Merriman، وهو طالب يدرس الدكتوراه فى جامعة بيركلى ذو ميول يسارية قتل فى الحرب، ومن المفارقات أنه كان صديقا مقربا من العالم النووى Robert Oppenhiemer أبو القنبلة النووية الأمريكية. وقد كانت هذه الصداقة من القرائن التى اتخذها السيناتور جوزيف مكارثى لمحاكمة أوبنهايمر ضمن سلسلة المحاكمات التى سادت من بداية عقد الخمسينيات من القرن الماضى خلال الحملة المحمومة التى شنها ضد الشيوعية. ومن جانب آخر لم يتوانَ الاتحاد السوفيتى عن دعم الجمهوريين بالسلاح وبالمستشارين العسكريين.
من جانبها، أرسلت ألمانيا فيلق النسر Condor Legion الذى كان نواة لسلاح الطيران الألمانى Luftwaffe الذى أثار الرعب خلال الحرب العالمية الثانية والذى شكلته ألمانيا فى السر مخالفة لبنود معاهدة فرساى، ويتكون الفيلق من 21 طائرة تحت قيادة Wolfram Von Richthofen وهو ابن عم الطيار الألمانى الأسطورى Manfred Von Richthofen الذى لقب بالبارون الأحمر خلال الحرب العالمية الأولى.
• • •
فى عام 1937 تعثرت محاولات القوات الملكية فى الاستيلاء على مدينة Bilbao الاستراتيجية عاصمة إقليم الباسك بسبب دفاعات مدينة Guernica الحصينة. وفى يوم 26 إبريل عام 1937 قام فيلق النسر بغارة على جرنيكا استمرت ثلاث ساعات أسقط خلالها 22 طنا من القنابل. استغلت الآلة الإعلامية للحلفاء الغارة لتشويه صورة ألمانيا ودمغها بجريمة الحرب وركزت على إظهار بربرية وقسوة القصف الجوى وذكرت أن عدد ضحايا الغارة بلغ 1700 فى حين أن دراسات المؤرخين اللاحقة أكدت أنه لم يتجاوز 153 قتيلا.
استمرارا للحملة على ألمانيا كلفت حكومة الجمهوريين الفنان الإسبانى الشهير بابلو بيكاسو برسم صورة تمثل معاناة ضحايا القصف الجوى مقابل 130 ألف فرنك دفعتها فرنسا وبريطانيا نيابة عن حكومة الجمهوريين الإسبانية التى كانت تعانى من أزمة مالية طاحنة بسبب الحرب.
رسم بيكاسو اللوحة التى أطلق عليها اسم جرنيكا وهى لوحة عملاقة بلغ حجمها 777.6 × 343.3 سم، استخدم فيها اللونين الأسود والأبيض دون غيرهما لتعطى انطباعا بالكآبة والحزن والمواجهة بين الخير والشر؛ وصور فيها امرأة تحتضن جثة طفل ورجلا رافعا يديه للسماء لتصوير المعاناة والبؤس، ورسم فيها ثورا وجوادا تعبيرا عن معاناة الحيوانات فى حلبات مصارعة الثيران التى تقام فى إسبانيا.
عرضت اللوحة فى جناح إسبانيا فى معرض باريس الذى انعقد تحت شعار «الفن والتقانة والحياة الحديثة» فى عام 1937، وجاء وضعها وكأنه تحدٍ مقصود لألمانيا التى يقع جناحها مقابل الجناح الإسبانى. وجدير بالذكر أن هتلر كان مترددا فى مشاركة ألمانيا فى المعرض إلا أن ألبرت سبير وزير الإنتاج والمعمارى الأول للرايخ الثالث أقنعه بالمشاركة وأنه سيضم جناحا يبهر به العالم وقد كان.
وبعد انتهاء المعرض ذهبت اللوحة فى جولة شملت الدول الإسكندنافية وبريطانيا ثم الولايات المتحدة حيث استقرت فى متحف التاريخ الحديث فى نيويورك، بعد أن رفض بيكاسو والجمهوريون عودتها إلى إسبانيا طالما بقى فرانكو فى الحكم. وبعد وفاة فرانكو فى عام 1975 عادت لوحة جرنيكا إلى إسبانيا فى عام 1981 لتعرض فى متحف البرادو العريق ثم انتقلت فى عام 1992 إلى متحف الملكة صوفيا الجديد فى مدريد.
• • •
ظلت الولايات المتحدة تنفخ فى قصة جرنيكا، ففى عام 1985 كلف المليونير والسياسى الأمريكى نلسون روكفلر، الذى كان نائبا للرئيس جيرالد فورد وجاء بلا انتخاب مثل رئيسه عقب قضية ووترجيت، شركة فرنسية لصنع نسخة منسوجة Tapestry لجرنيكا تبلغ مساحتها 610 × 671 سم تم وضعها فى قاعة مجلس الأمن فى الأمم المتحدة بحضور الأمين العام للأمم المتحدة بيريز دى كويلار وروكفلر وزوجته. لعلى أتساءل لو بقى بيكاسو الذى توفى فى عام 1973 هل كان سيرسم لوحة تصور معاناة غزة التى ألقى عليها قنابل زنتها 15 ألف طن من المتفجرات مقابل 22 طنا ألقيت على جرنيكا وبلغ عدد ضحاياها 11 ألف قتيل مقابل 153 فى جرنيكا واستمرت الغارات عليها أربعين يوما مقابل ثلاث ساعات على جرنيكا؟
أشك كثيرا أنه كان سيفعل فقد تلقى الثلاثين قطعة فضية على عمله. وهو لم يرسم لوحة لضحايا القنابل الذرية فى هيروشيما وناجازاكى أو ضحايا هامبورج ودرسدن فى ألمانيا أو ضحايا القصف الوحشى لفيتنام.
والسؤال الآخر الذى يراودنى بإلحاح هل إذا قام فنان عربى أو غير عربى بإبداع لوحة أو جدارية عن المذابح التى جرت فى غزة وأهداها إلى الأمم المتحدة، فهل تقبل بعرضها فى قاعة مجلس الأمن أم تتدخل الولايات المتحدة التى تستخدم حقها فى النقض لمنع عرضها كما تستخدمه لمنع وقف إطلاق النار وإيقاف أنهار الدم التى تسيل؟
محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات