من أكثر الشخصيات التاريخية المثيرة للتساؤل والدهشة شخصية المارشال بيتان، الرجل الذى مثل ذروة الشجاعة والصمود والفخر ثم انتقل إلى حضيض الاستسلام والمهانة والازدراء.. كرمته فرنسا بأسمى الرتب العسكرية ــ مارشال فرنسا. كان رمزا للثبات والصمود والانتصار خلال الحرب العالمية الأولى، ثم انقلب الحال وصار رمزا للاستسلام والهزيمة والانكسار فى الحرب العالمية الثانية وحوكم بتهمة الخيانة العظمى وأدين وحكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم إلى السجن المؤبد. كيف حدث ذلك، وكيف نفسره؟
• • •
ولد المارشال Henri Philippe Petain فى عام 1856 فى ريف فرنسا لأسرة ريفية من المزارعين، ودرس فى المدارس الدينية والتحق بعد إتمام دراسته المدرسية إلى أكاديمية Saint Cyr العسكرية، وكان أداؤه فى الأكاديمية باهتا لا يبشر بمستقبل واعد، فتخرج وكان ترتيبه الـ405 فى دفعته التى تبلغ 412 طالبا!
تأخر المارشال فى معظم أمور حياته حتى فى جانبها الشخصى، فلم يتزوج حتى تجاوز الـ60 من عمره.
عند اندلاع الحرب العالمية الأولى كان يناهز الستين من عمره ويفكر فى التقاعد. بدأت الحرب وهو قائد لواء وأبلى بلاء حسنا فى معركة St Quentin فتولى قيادة فرقة ثم جاء موعده مع القدر عقب الهجوم الكبير الذى شنته فرنسا على الخطوط الألمانية فى ربيع 1917 وأطلق عليه هجوم نيفيل نسبة إلى قائد الهجوم الجنرال Robert Neville، وفشل الهجوم فشلا ذريعا، وفقد الجيش الفرنسى 190 ألفا بين قتيل وجريح وأصيبت الروح المعنوية للجيش بانتكاسة قوية أدت إلى تمرد عدد من الوحدات. أدت هذه الأحداث إلى إقالة الجنرال نيفيل وتعيين بيتان قائدا للجيش الثانى، أى أنه تولى القيادة فى مناخ هزيمة وتمرد لكنه صمد صمودا أسطوريا وأعاد تنظيم صفوف الجيش ثم تحول إلى الهجوم وأطلقت عليه فرنسا لقب أسد فردان واستطاع أخيرا أن يحطم دفاعات الجيش الألمانى وتحقيق الانتصار لفرنسا والحلفاء فى الحرب.
فى سنة 1940 لم تكن الانتكاسات أمرا غريبا على بيتان، فقد عاصرها فى أشد أشكالها فى الحرب العالمية الأولى وصمد أمامها، فما الذى جعله ينهار ويستسلم عندما اخترق الجيش الألمانى خط ماجيتو الدفاعى وتنسحب القوات البريطانية إلى دنكرك وتفر عائدة إلى بريطانيا عبر قناة المانش؟ ولماذا استسلم لألمانيا وقبل أن يترأس حكومة فيشى العميلة؟
لعله فقد الثقة والإيمان، فقد الثقة فى نفسه بسبب هرمه فقد كان قد بلغ الخامسة والثمانين من عمره فى عام 1940 وأصابه الضعف والوهن، ولعله فقد أيضا الإيمان فى فرنسا التى ترنحت فى سنوات ما بين الحربين بين حكومة اشتراكية يسارية وحكومات برجوازية وحكومات يمينية متطرفة تميل إلى الفاشية وانقسم الشعب الفرنسى على نفسه وفقد إيمانه بقياداته.
ومع أفول نجم بطل فرنسا سطع نجم بطل آخر هو الجنرال شارل ديجول الذى كان مفعما بالثقة فى نفسه وبالإيمان ببلده ورسالته فرفض الهزيمة ورفع راية فرنسا الحرة، وواصل الحرب حتى حرر فرنسا وهزم ألمانيا النازية. ولعل حربه من أجل تحرير بلاده رسخت فى نفسه قدسية الحرية لدى الشعوب، فانتهت الحرب فى الجزائر وبذلك تحقق الاستقلال لشعبها بعد نضال طويل.
مقاربة أخرى للفرق بين بيتان وديجول تبرز فى الفرق بين نفيا تشمبرلين، رئيس وزراء بريطانيا، الذى قابل هتلر فى ميونخ فى عام 1938 واستسلم لطلبه ضم تشيكوسلوفاكيا فزاد من ثقة هتلر وطمعه وقام بغزو بولندا وبعدها النرويج ثم فرنسا، فسقط تشمبرلين وتولى رئاسة وزراء بريطانيا ونستون تشرشل الممتلئ بالثقة فى نفسه وفى بلده، وكانت خطبته الأولى سنحارب فى البحار والمدن والشواطئ ولكننا أبدا لن نستسلم وفعلا صمدت بريطانيا حتى انتصرت فى الحرب.
• • •
لدينا فى مصر المثل فى جمال عبدالناصر الملىء بالثقة فى نفسه والإيمان ببلده، فأمم قناة السويس وتصدى للعدوان الثلاثى، وصمد حتى أمام نكسة هائلة وأطلق صيحة أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة.
ثم جاء من بعده أنور السادات ومصر ما زالت تنزف من آثار النكسة وسيناء محتلة والحرب النفسية تروج لاستحالة عبور قناة السويس المزودة بصنابير النابالم، ثم الساتر الترابى ثم خط بارليف والولايات المتحدة تغدق على إسرائيل بطائرات الفانتوم وأحدث ما فى ترسانتها من سلاح، لكنه لم يفقد الثقة فى نفسه ولم يعدم الإيمان ببلده فاتخذ القرار وعبر القناة وتحدى المستحيل وحقق النصر.
ولا يسعنى إلا أن أقارن بين جمال عبدالناصر وأنور السادات وفاروق الذى انعدمت لديه الثقة فى نفسه والإيمان ببلده فاستسلم صاغرا لطلب السفير البريطانى يوم 4 فبراير 1942 ووقع على تشكيل الوزارة التى أمليت عليه.
أسرح بخيالى إلى سيناريو آخر، غضب فاروق لكرامته وكرامة بلده فنزل إلى باحة قصر عابدين ووقف وسط حرسه الملكى ممسكا مسدسه فهل كان الإنجليز يجرئون على المساس بمليك البلاد وروميل وجيشه على حدود البلاد ولا يتحملون ثورة الشعب المصرى فى هذا التوقيت الدقيق؟. لعل القوات الإنجليزية التى حاصرت القصر كانت أطلقت النار عليه وقتلته، ولو حدث ذلك لصرنا نحتفل كل عام فى يوم 4 فبراير بذكرى الملك الشهيد ويكتب اسمه بحروف من نور فى كتب التاريخ، القضية هى قضية ثقة وإيمان.
الحديث عن الثقة والإيمان لا يكتمل إلا بذكر رجل يقف على قمة هرم الثقة والإيمان وهو الزعيم الفيتنامى العظيم «هو تشى منه» الذى واجه جبروت وطغيان الولايات المتحدة فى الحرب الفيتنامية ولمعرفة مكانة هذا الرجل وهذا الشعب من الثقة والإيمان علينا أن ندرك أن الولايات المتحدة ألقت على فيتنام خلال الحرب سبعة ملايين ونصف طن من القنابل، وهى ضعف زنة القنابل التى ألقيت على ألمانيا والدول التى سيطرت عليها فى الحرب العالمية الثانية إضافة إلى القنابل التى ألقيت على اليابان ومسرح الحرب فى المحيط الهادى. ولو أخذنا فى الاعتبار مساحة فيتنام الشمالية وعدد سكانها مقارنة بالمسرح الأوروبى ومسرح الباسيفيك لأدركنا مدى بربرية القصف الأمريكى.
لعلنا نتساءل عن سبب ذهاب الولايات المتحدة إلى هذا الحد من الجبروت تجاه بلد صغير لا يهدد أمنها، الإجابة إنها الرغبة فى كسر الثقة والإيمان والصمود والإعلان للعالم بأن لا قبل لأحد بقوة الولايات المتحدة حتى تكتفى فى المستقبل بتحريك حاملة طائرات تجاه سواحل أو دولة لتخر مستسلمة لإرادتها لكنها فشلت فى تحقيق ذلك بفضل صمود الشعب الفيتنامى.
• • •
ليس كل من صمد وتصدى فى التاريخ حقق النصر فهناك من تحدى قوى قاهرة تفوقه كثيرا وقُهر رغم ثقته فى نفسه وإيمانه بقضيته، ويحكى لنا التاريخ عن سبارتاكوس الذى قاد جيشا من العبيد ضد جيش روما وهى فى أوج قوتها وعظمتها، ولدينا فى بلادنا نماذج عديدة منها أحمد عرابى الذى واجه بريطانيا، وهى إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، وعمر المختار الذى واجه بفرسانه قوات إيطاليا المزودة بالطائرات، فكانت أول من يسقط القنابل فى ساحة القتال، وعبدالكريم الخطابى الذى قاد ثورة الريف فى المغرب وقصفه الإسبان والفرنسيون بالغازات السامة. إضافة إلى يوسف العظمة الذى واجه فرنسا التى خرجت منتصرة من الحرب العظمى، واستشهد فى معركة ميلسون، ورشيد على الكيلانى فى العراق.
هل سالت دماؤهم هدرا وسدى، أم أنهم سطروا بدمائهم التاريخ بحروف ناصعة ليكونوا مثالا وأسوة لأجيال تالية تؤكد أن الإنسان أولا وأخيرا ثقة وإيمان وصمود وكفاح؟، وكما قال سيدنا على بن أبى طالب «ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه».