عجز فى ديمقراطية أوروبا - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:57 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عجز فى ديمقراطية أوروبا

نشر فى : الأربعاء 24 فبراير 2016 - 9:50 م | آخر تحديث : الخميس 25 فبراير 2016 - 8:08 ص
عاد بنفس حماسته وربما أكثر، عاد يانيس فاروفاكيس وزير مالية حكومة حزب سيريزا اليسارية، إلى الواجهة ليلقى على قادة أوروبا، والغرب عامة، درسا فى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. العودة فى حد ذاتها قد لا تثير دهشة أتباعه والمعجبين به، ولكنها بالتأكيد تأتى فى وقت يتعرض فيه الاتحاد الأوروبى إلى أخطار شتى تهدده من كل الجوانب، وتهدد معه مستقبل الأمن والرخاء فى أوروبا وأقاليم الجوار ومنها الشرق الأوسط.

اختار فاروفاكيس أن يلقى رسالته التحذيرية فى برلين، عاصمة الدولة التى قاد اليونانيين فى تمردهم عليها وعلى برنامجها التقشفى، قال إنه يعتبر واجبه الأول فى المرحلة الراهنة «إصلاح الاتحاد الأوروبى»، وليس فقط اليونان، يريد بحملته أن ينقذ أوروبا من نفسها، كما قال، وإلا فإنها لو تركت لحالها لافترست نفسها.

تحدث عن المنظمة التى أسسها ويقودها مع آخرين وهدفها إعادة وضع «الشعب»، أى «الديموس» فى مكانه الأصلى وهو الديوقراطية. سلط هجوما شديدا على النخبة البيروقراطية التى تهيمن على أجهزة الاتحاد الأوروبى بعد أن أراحت جانبا شعوب أوروبا من العملية السياسية، ووضعت بالفعل نظاما لإدارة شئون أوروبا يخلط بين البيروقراطية والديمقراطية، تزعم هذه النخبة التزامها الديمقراطية وهى فى الحقيقة أبعد ما تكون عنها، فالديمقراطية تشترط الثقافة ومشاركة الشعوب فى مناقشة القرارات التى تخصها والرقابة الدائمة على أعمال ومناقشات البيروقراطية الحاكمة. الديمقراطية بشكلها الراهن، كما هى مطبقة فى أوروبا الموحدة، تفتقر إلى «الديموس»، أى تفتقر إلى الشعب، وبالتالى هى ليست ديمقراطية.

***

استاذ الاقتصاد اليونانى الذى كان وزيرا للمالية حتى الصيف الماضى أضاف فى خطابه الذى ألقاه على جمع غفير فى برلين محذرا بأنه إما أن تتحول أوروبا إلى الديمقراطية فورا أو تنفرط، ولن يحدث هذا التحول إلا إذا تخلصت أوروبا من قيادتها البيروقراطية «المعادية للديمقراطية».

مازال فاروفاكيس يعتقد أن سياسات التقشف المفروضة على شعوب أوروبا تذكر بسياسات التقشف التى أعقبت أزمة ١٩٣٠، بكل ما تحتمله هذه الإشارة من معانٍ، ومنها الميل المتزايد نحو الفاشية. يعتقد أيضا، ويعلن محذرا، أن الانقلابات لم تعد تعتمد على الجيوش لتنفيذها. فمن الممكن جدا، بل ويحدث فعلا فى أنحاء كثيرة من العالم، أن تدبر انقلابات بالاعتماد على إغراق الدول المتعثرة بالقروض. القروض فى رأيه هى طريق أقصر وأسرع لفرض السيطرة الأجنبية على الدول، وأفضل كثيرا من تدبير انقلابات عسكرية. هذه القروض هى التى تقود الآن أكبر عملية ابتزاز فى تاريخ دول وشعوب جنوب أوروبا.

***

الاهتمام بعودة فاروفاكيس ليس فقط لأنه عاد ليقود تيارا معتدلا فى اليسار الأوروبى أو لأنه يطالب بتجديد التزام قادة الوحدة الأوروبية الديمقراطية، ولكن لأن حملته تصادف اجتماع عدد من المشكلات، ولا أقول الأزمات الخطيرة، التى تواجه الاتحاد الأوروبى. القارة بأسرها تتعرض لأخطار تهدد بانفراطها مرة أخرى، بكل ما يمكن أن يحمله هذا الانفراط من احتمالات مخيفة، وتتعرض فى الوقت نفسه، وبدرجات أقل خطورة، لتهديدات يمكن أن تعطل مسيرة الوحدة وتتسبب فى خلق أوضاع وعلاقات متوترة بين الدول أعضاء الاتحاد الأوروبى، الأمثلة كثيرة، منها:

أولا، اتجاه متزايد فى سياسات القارة للعودة إلى أوروبا المنغلقة، هنا يميل بعض المحللين إلى إلقاء اللوم على الولايات المتحدة، وبخاصة على سياسات إدارة الرئيس أوباما التى تحللت من التزامات كثيرة كانت تربط أمريكا بأمن واقتصاد أوروبا. إلا أنه لا يجوز تجاهل الصعود المتسارع لنفوذ روسيا وقوتها بعد أن كانت أوروبا تتصور أن اتفاقيات الوفاق التى أعقبت الحرب الباردة وقعت على أساس فهم متبادل بأن روسيا لن تعود قوة كبرى فى السياسة الدولية.

ثانيا، تتعرض سياسات الحدود المفتوحة بين دول أوروبا إلى إجراءات تهدد بتقييد حرية المرور والانتقال. هذه الإجراءات لو استمرت، ويبدو أنها مرشحة للاستمرار، سوف تؤدى حتما إلى وقف العمل باتفاقية شينجن، وعودة أوروبا إلى المربع الأول، باعتبار أن حرية المرور والتنقل هى الأساس الذى يعتمد عليه هيكل الاتحاد الأوروبى وفكرة الوحدة. يأتى إغلاق الحدود نتيجة صعود ملحوظ فى الشعور القومى لدى شعوب الدول الأعضاء، ولكنه يأتى بشكل أقوى نتيجة الأعمال الإرهابية التى نفذت فى فرنسا وتركيا، ونتيجة مباشرة لزحف اللاجئين من سوريا ووسط آسيا بأعداد لم تعرف أوروبا لها مثيلا من قبل.

ثالثا: غير خاف الميل المتزايد نحو صعود تيارات وتقاليد شعبوية فى سياسات عدد من دول الاتحاد، ولعل فاروفاكيس نفسه، بل ونوعية الزعماء المشاركين فى اجتماع برلين تؤكد قوة هذا التوجه، فقد شاركت جماعات وأحزاب تعتمد الشعبوية السياسية أسلوبا للفوز فى الانتخابات والتصدى للحكومات القائمة ولمجلس الاتحاد الأوروبى ــ هناك فى اليونان حكومة قامت باستخدام هذا الأسلوب، وفى إسبانيا حقق حزب «بوديموس» اليسارى تقدما جيدا فى الانتخابات الأخيرة، مستخدما الاسلوب نفسه، كذلك حققت الجبهة الوطنية اليمينية فى فرنسا نسبا عالية فى المناطق الريفية. ألمانيا نفسها تتعرض الآن لصعود متسارع لقوى اليمين المتطرف، فى وقت تشهد فيه شعبية المستشارة ميركل هبوطا ملحوظا لأسباب عديدة ليس أقلها شأنا موقفها من اللاجئين السوريين وفشلها فى تهدئة حماسة الرئيس بوتين وسياساته الخارجية. نلاحظ أيضا ممارسات شعبوية جديدة فى كل من الدنمارك وبولندا والمجر والسويد.

رابعا: أكثر من دولة عضو فى الاتحاد الأوروبى تهدد علنا بالانسحاب منه. بريطانيا المثال البارز وبخاصة هذه الأيام بعد أن أجرى رئيس الوزراء كاميرون اتصالات مكثفة بقيادات الاتحاد فى بروكسل وقيادات دول أوروبية، يهدف الحصول على تنازلات أوروبية تسمح لبريطانيا بوضع متميز وأفضليات خاصة وترفع عنها بعض الالتزامات، لا يوجد شك فى أن هذه الاتصالات والحملات الإعلامية فى بريطانيا سواء المؤيدة للانسحاب أو المعارضة له رفعت درجة التوتر السياسى فى القارة الأوروبية إضافة إلى مخزون التمرد الموجود لدى دول أخرى مثل بولندا والمجر، وكلاهما معترض على قرارات اتخذها المجلس الأوروبى بأغلبية الأصوات.

***

لا أذهب مع من ذهب متوقعا انهيار الاتحاد الأوروبى، لا أتوقع تدهورا أشد فى اقتصادات السوق الأوروبية ولكنى أتوقع مزيدا من تآكل النسيج الاجتماعى فى دول الاتحاد. لا أتصور أن هذا النسيج بحالته الراهنة قادر على الصمود فى وجه الأزمة التى تسبب فيها اللاجئون والصدمة التى أحدثتها الأعمال الإرهابية فى فرنسا. يعانى هذا النسيج الآن من تفاعلات قضية الهوية وتأثيرها على خيارات مثل خيار أوروبا المنفتحة أم أوروبا المنغلقة، هناك أيضا، وهو ما تشترك فيه أوروبا مع الولايات المتحدة وعديد الدول، أزمة اللامساواة المتفاقمة، وهى الأزمة التى صارت تؤثر فى صلب هياكل الدولة الحديثة فى كل مكان.

***

أوروبا تفقد مكانتها كنموذج.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي