لا يستوى من سأل الله حسن الخاتمة ومن استعجلها فأورد نفسه وغيره موارد التهلكة. لو أرادنا الله أمواتا فى موسم الحج لأمرنا بذلك! بل إن الأمر الإلهى واضح صريح فى هذا الباب فى قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]. والاستطاعة المشروطة للحج والعمرة وفقا لدار الإفتاء المصرية «تتحقق بقوَّةِ البدنِ وتحمُّلِ مشقة السفر وأداء المناسك، وبأمن الطريق، وبأن يملك نفقة زاده من طعامٍ وشرابٍ ومبيتٍ ونفقةِ المواصلات التى توصله إلى البلاد المقدسة ذهابًا، وتحمله إلى بلاده إيابًا دون تقتيرٍ أو إسرافٍ، وأن تكون هذه النفقة زائدة عن احتياجاته الأصلية واحتياجات مَن يعول مدة غيابه من مسكنٍ، وثيابٍ، وأثاثٍ، ونفقةِ عياله، وكسوتهم، وقضاء ديونه».
فى هذه الفتوى تتحقق مقاصد الشريعة التى تتجلى فى حفظ الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. فإذا انصرفت إرادة البلد المنظّم لشعيرة الحج إلى وضع تدابير لتنظيم أدائها، وتحقيق مقاصد الشريعة (وفق رؤيتها) بما ألمح إليه خطيب عرفة، بأنه الواجب الذى لا يتم الواجب إلا به.. فإن على كل حاج أن يحترم تلك التدابير، تماما كما يحترم النظم التى تفرضها ضرورة الحصول على تأشيرة للزيارة، حتى ولو لم تكن تلك التأشيرة مستخدمة على عهد الرسول (ص) والخلفاء من بعده.
لم يأمرنا الله بمبارزة أهل الحكم ومغالبتهم بما نراه صوابا، وأن نحج أو نعتمر رغم أنوفهم! ولو كان يشوب حكمهم الظلم أو البطلان فقد وقع الإثم عليهم، لا على الحاج الذى لم يتحقق له «أمن الطريق» كما ورد بالفتوى أعلاه، إذ لن تحميه النظم والتدابير التى خالفها عامدا. ولا ندرى لعل الله قد ردّ رسوله الكريم (ص) وحجيج المسلمين عن الحج فى عام صلح الحديبية، لا ليتعلّم المسلمون طاعة نبيهم فحسب، وإنما ليغرس فيهم وفيمن يأتى بعدهم القدرة على تغليب أمن الجماعة وتحقيق مقاصد الشريعة، بل والامتثال لشروط قريش (وهم بعد على باطل وأهل شرك وكفر) لتحقيق نفع أكبر أجّله الله لحكمة يعلمها. والقياس هنا مع الفارق، فحكم أرض الشعائر اليوم لجماعة من المسلمين، انتظمت فى كيان لم يعرفه الأوائل وهو «الدولة القُطرية». هذه الدولة هى المملكة العربية السعودية التى يحق لكل إنسان أن يختلف معها فى تقدير الأولويات، وتحديد ما يصلح وما لا يصلح لجماعة الحجيج وعمّار بيت الله الحرام. لكن هذا الاختلاف لا يمتد إلى منازعة تلك الدولة صلاحياتها وسيادتها، والحكم والإفتاء بجواز مخالفة نظم تلك الدولة، وإن كان فى ذلك هلاك أو ضرر المخالفين، بل ومن يزاحمهم المخالفون من ضيوف الرحمن، الذين توافرت لهم كل شروط الاستطاعة، وتحقق لهم أمان الطريق، وتيسّر لهم أداء المناسك بأقل قدر من المخاطر.
وقد أعلن رئيس الوزراء المصرى فى بيان له عن واقعة استشهاد عدد كبير من حجاج بيت الله الحرام من المصريين هذا العام، أن عدد من قضوا من الحجاج المنتظمين فى البعثة الرسمية أقل من العام الماضى، حيث جاء فى البيان ما نصّه: «يبلغ إجمالى عدد البعثة المصرية الرسمية ٥٠٧٥٢ حاجا، وبلغ إجمالى عدد الوفيات بها ٢٨ وفاة، وهى نسبة تعد الأقل على مدى السنوات السابقة، ولكن نظرا لعدم وجود أى بيانات مسجلة للحجاج غير النظاميين لدى البعثة الطبية، تعذّر متابعة أحوالهم الصحية، وهو ما صعب المهام على الجميع حاليا، ولذا ستتم معاقبة كل من تسبب فى هذا السفر غير النظامى». ووفقا لبيانات نسبت إلى وكالة الأنباء الفرنسية، فإن عدد الوفيات فى الحجيج المصريين (إجمالاً) تعدت 600 حاج! وهو عدد مخيف يقترب من مثلىّ عدد جماعة المسلمين فى غزوة بدر!
• • •
لقد ساهم فى وقوع هذا الحدث العظيم أصحاب الفتاوى التى تجيز مخالفة تدابير نظم الحج، وأصحاب البرامج السياحية التى تعمل على «تزوير» و«تزييف» صفة الحجيج لدخولهم فى صورة سائحين، ثم القيام بأداء المناسك بما يفوق طاقة المشاعر المقدّسة. وساهم فى وقوعه كل من ساعد وأقبل على المجازفة بنفسه وأهله والمسلمين، وهو عالم بالضرر واحتمالاته. تخيّل معى أن كل المسلمين البالغ عددهم ما يقرب من 2 مليار شخص (حوالى ربع سكان العالم) أرادوا أن يحجوا فى عام واحد. ثم تخيّل أن شروط الاستطاعة قد توافرت لنصف عددهم، فهل تطيق المشاعر المقدّسة زيارة مليار شخص فى موسم واحد؟! هل يمكن لصعيد عرفات الذى يتسع بالكاد لما يقرب من 1,8 مليون حاج فى يوم عرفة، أن يستوعب هذا العدد؟! الإجابة لا بكل تأكيد. سوف تتضاعف المخاطر ويعم الخلل ويموت الناس، دون أن تتوافر فى الدولة أية وسائل للسيطرة على الوضع، لا من الناحية الصحية ولا الأمنية ولا اللوجستية ولا التقنية.. ولن أتطرق هنا إلى تأويل قوله تعالى «الحج أشهر معلومات» وما يذهب إليه البعض من ضرورة أن يمتد موسم الحج لعدة شهور ليسمح للجميع بأداء المناسك.. فهذا جدل لم يحسمه الفقهاء ولا مجال له فى هذا الموضع.
إذن لا بديل عن التنظيم مراعاة لتغير الظروف، ولا بديل عن قيام كل دولة بتقديم الحجاج الذين لم يسبق لهم الحج وتوافرت لهم شروط الاستطاعة، عن أولئك الذين سبق لهم إسقاط الفرض. ولا بديل عن قيام السعودية بتطوير البنى الأساسية واللوجستية والفنية لتحقيق أكبر قدر من الاستيعاب للحجيج، وأقل قدر من السرف والترفيه (الذى يحد من الطاقة الاستيعابية للمشاعر، نظرا لشغل صاحب الحج المتميز مساحة، واستغلاله لموارد تكفى العشرات من المسلمين)، ولا بديل عن احترام قرارات الدولة المنظّمة لإتمام الفريضة التى نهى الله مؤديها عن الرفث والفسوق والجدال، ناهيك عن مبارزة الحكام..
أعلم أن هذا المقال يفتح بابا للطعن فى صاحبه بأنه يكتب فى غير تخصصه، وأنه يسوّغ لأولى الأمر ويمهّد لهم ما لا يصلح أمر الجماعة.. إلى غير ذلك من اتهامات معلّبة، تصدر عن جهل بطبيعة الإسلام الذى لا يعرف الكهنوت ويحض على إعمال العقل، خاصة فيما يحتمل الاجتهاد، وما يتصل بشئون الدنيا وصلاح شئونها. أو هى اتهامات تصدر عن مآرب خاصة للمنتفعين والمستفيدين ماديا من زيادة أعداد الحجيج، ولو على حساب أمن المسلمين وسلامتهم. وفى كلتا الحالتين لا مجال للاهتمام بهذا الطعن، إذ أن ما أبسطه للقراء الأعزاء من رأى ليس بفتوى ولا بأمر، بل هو محض اجتهاد يصيب صاحبه ويخطئ.
• • •
فى الختام، هناك أمر آخر تعرّضت له فى مقالات سابقة، تناولت خلالها اقتصاديات الأديان والسياحة الدينية بشىء من التحليل. وفى سياق مقالنا اليوم، تتحقق الاستطاعة لأداء الحج بعدة شروط، ومنها امتلاك نفقة الزاد والمواصلات ذهابا وإيابا دون تقتيرٍ أو إسرافٍ، وأن تكون هذه النفقة زائدة عن الحاجة الأصلية لراغب الحج ومن يعول طوال مدة غيابه من مسكنٍ، وثيابٍ، وأثاثٍ، ونفقةِ العيال، وكسوتهم، وقضاء الديون. إذن فمن العجيب أن تشيع عروض الحج بالتقسيط لمن لا تتوافر له النفقة أو الاستطاعة. ومن الأعجب أن تشتمل تلك العروض على فوائد تضاف إلى قيمة «قرض» الحج!. ولا يفهم أن يتم الحج بالاستدانة والتقتير على النفس والأهل وأن يزيد الإقبال عليه فى أوقات الشدة الاقتصادية والغلاء والأزمات وشح العملة الصعبة.. فى تصوّر من الحاج بأنه لو أنفق آخر جنيه فى حوزته فإنه بذلك ينتظر الخير الكثير من الله إن قبل حجته. ولن أجادل فى هذا الباب كثيرا، لأن مخاطبة الإيمان بالعقل ليس بأمر يسير، ولأن الله قادر على صناعة المعجزات، ولا ينقطع فيه رجاء.. لكننى أذكّر نفسى والقرّاء بما نهى الله عنه فى محكم تنزيله بقوله تعالى: «ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ».