طيور - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:34 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طيور

نشر فى : الثلاثاء 24 سبتمبر 2019 - 11:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 24 سبتمبر 2019 - 11:35 م

يقول أصدقاء اعتمادا على ادعاء بعلم أن كبير العمر عندما يصف مشاهد وقعت فى حضوره وهو فى الثانية من عمره باعتبارها وقائع وحقائق إنما هى خيالات تصنعها أوهام التقدم فى السن ويغذيها الحنين إلى الماضى. يقول أصدقاء آخرون اعتمادا على ادعاء بنفس العلم أن الإنسان فى مرحلة من العمر متقدمة يتذكر بالفعل صورا متقطعة وأحداثا وقعت له أو فى حضوره وتركت آثارا شجعت فى المستقبل على تراكم وقائع بعينها إيجابية أو سلبية. أقول لهؤلاء الأصدقاء جميعا أشكر لكم اهتمامكم وأؤكد لكم، الصغار منكم قبل الكبار، إن أهلى كانوا يضعوننى فى مشربية لها باب يغلق من داخل الغرفة ومعى عصفور ملون وإناء صغير به قليل من الماء وإناء آخر به حبوب. استفسرت وأنا أمر بالمراهقة وعلمت أننى كنت أقضى ساعات أتسلى بما يجرى فى واحد من أقدم شوارع قاهرة المعز وأكثرها حركة. قالوا إنهم كانوا يخرجوننى من المشربية إن غلبنى النوم أو حل موعد إطعامى أو حان وقت تنظيف المكان.
***
سواء كانت الرواية بنت خيال أو جانبا من واقع شهد عليه شهود فالأمر الأهم هو أن صاحب الرواية وهو فى الوقت نفسه بطلها يعترف اليوم أنه عاش عمره عاشقا للطيور. لم تكن دائما علاقة سهلة. فرضت ظروف عملى أن أعيش بعيدا عن عشش الطيور ومضاجعها. كانت دائما حيث لا يجب أن تكون إن كانت حقا بادلتنى العشق والشوق. رفضت أن أحبس طيرا كعصفور المشربية. عرف القاصى والدانى كم جهدا بذلت ووقتا استهلكت ومالا أنفقت خلال رحلات بحثى عنها ومن أجل ساعات محسوبة أقضيها معها. هما، وأقصد القاصى والدانى، يعرفان أيضا أن عشقى الأكبر لم يتعب نفسه ولو مرة واحدة فى محاولة بحث عنى. لم أسمح لفرصة لقاء تضيع. قضيت ساعات فى بعض أكبر وأجمل الميادين أداعبها وأطعمها وأروى ظمأها. لم أسأل، كما يسأل الظرفاء من غير عشاق الطيور، أين يا ترى ذهب كل هذا الحب الذى تتلقمه طيور تلك الميادين من أيدى عشاقها وأيدى سياح جاءوا من مدن لا يعيش فيها طير.
***
أنا ابن القاهرة. ابن مدينة كانت تحف شوارعها أشجار وهواؤها عليل وأصواتها خافتة. فى مثل هذه المدينة كانت الطيور تعيش. تطل فى الصباح على الأهالى من الشبابيك، تغنى هنا وتداعب هناك. كنت أشك حتى تأكدت أن أزواجا منها كانت تتعمد تبادل الحب على عتبات شبابيكى. أهى الموسيقى التى كانت تخرج من فضائى تشجعها وتثير فضولها أم توسلاتى وهمهمات عشقى لها. أم تنبأت بفراق طويل. كان واضحا لنا، الطيور وأنا، أن المدينة التى نشأنا فيها ونعمنا بالهدوء فى شوارعها وحواريها وأزقتها علموها كيف تخون العهد. يقتلعون الأشجار ليشيدوا طوابق أعلى ويخترعون مكبرات الصوت ليسمع الناس قسرا صوت الأذان ومونولوجات ظريف الحى وزفة العرسان. هكذا بدأت هجرة الطيور. سبقت هجرة البشر. كلاهما قرر النزوح ولكن من حى يزدحم بالبشر والمبانى وشوارع الأسفلت إلى أحياء قاومت وصمدت قبل أن تنهار مقاومتها تحت معاول الهدم وتمدد الدولة. مرت عقود. عقد بعد آخر أراقب فيه رحيل الطير فاستعد لرحيل مماثل. تركت العجوزة إلى الزمالك ومن الزمالك إلى المهندسين حين كانت هذه الأخيرة تخضع لقوانين ضد الارتفاعات وخلع الأشجار. سكنت على طرف شارع عريض ومن حيث أكون أرى حقولا ترعى فيها الماعز وطيورا تنشر الفرح والتفاؤل. طيورى تعود والأمل يتجدد والدنيا بخير. ولكن ليس طويلا.
***
أنا ابن حضارة جمعت نقيضين، عبقرية البناء وقدسية الطيور. حروف حضارتى طيور. سردياتها مكتوبة بلغة الطيور. رأينا طيرا يتربع رأس فرعون ملك البلاد وابن الآلهة. نراه خير حافظا لقصور الحكم ومعابد آمون ورع. الطيور هى التى نقلت لنا أسرار حضارة المصريين القدماء وليست الحروف اللاتنية أو حروف العربية أو أى لغة أخرى. لم نكن الحضارة الوحيدة التى قدست الطير. قدسها الإغريق والرومان. كانت النسور على الأسوار تحرس أثينا وروما. اختارها الأمريكيون نموذجا لمجد عقدوا النية أن يكون عظيما. أخطأ حدس الرئيس بنيامين فرانكلين الأب الروحى للرئيس دونالد ترامب حين اقترح أن يكون الديك الرومى رمزا لأمريكا. لم يجد فرانكلين طيرا بدماء أمريكية نقية لم تختلط بدماء أخرى إلا الديك الرومى. عنصرية مبكرة انهزمت أمام أنصار التعددية العرقية الذين اختاروا النسر رمزا للعلو والرقى والقوة والطهارة فكان أن صار النسر فى أمريكا، كما فى بلاد عديدة، رمز الوطن.
***
طفت فى بلاد عديدة وعشت بين شعوب متباينة الأمزجة. كانت الطيور فى غالب هذه البلاد والشعوب تحتل مواقع فى أعلى الأمكنة وأدفأ القلوب. أظن أننا قدمنا نماذج وكعادتنا عدنا عنها أو هكذا يروح ظنى. كانت الطيور لازمة لا تفارق شعراءنا ومؤلفى الأغانى. نشأنا على سير طيور أسمهان ومحمد عبدالوهاب وفيروز وأم كلثوم. عشنا نردد أمثال الأجداد وأغلبها تستعين بالطيور، الطيور التى على أشكالها تقع، ولو فيها خير ما رماها الطير ومش كل الطير يتاكل لحمه. منذ زمن بعيد قرر أهالينا أن البشر كالطيور نوعان: حمائم وصقور، واختاروا النسور طيرا سيدا على كل الطيور، قالوا عنه إنه لا يستسيغ العيش إلا قمم الجبال بعيدا عن عامة الطير، وقالوا إن النسر لا يصطاد الذباب، وقالوا عن النسر أنه إن شعر باقتراب نهايته سحب أذياله وجناحيه وطار إلى أعلى قمة فى الجوار ليموت هناك.. يموت فوق القمة وليس كباقى الطيور والمخلوقات.
***
سألت ابنة العشرينات عن أغانى حديثة تفضلها تتعاطف مع الطير أو تمجده أو تحن إليه. فكرت ولم تجد على الفور أغنية واحدة. سألتها عن الأمثال فكرت طويلا قبل أن تقول إنها أحيانا تسمع جدتها تردد مثالا أو آخر ونصحتها مدربتها فى المعهد الليلى أن تهتم بقراءة ما يسجله عالم الاجتماع الشهير أحمد مرسى فى صفحته بالفيسبوك من نماذج لبعض أمثالنا الكاشفة عن نوعيتنا وكثيرا عن مستقبلنا. سكتت الطفلة طويلا قبل أن تطلق رصاصات هزت جوارحى. سيدى، زحفتم بمدنكم وعماراتكم الخرسانية، زحفتم بأسوأ ما فى الذوق المعاصر والعصرى تقتلعون الأشجار وتهدون عششا احتضنت أروع سير الحب وشعور الأمن والأمان. رحتم ترصون الطوب الأحمر بنايات قميئة وقمينة بتطفيش الطيور. سيدى.. اكتأبت الطيور. جاعت ومرضت. توقفت عن الغناء فلم يهتم أحد. انتظرت أن يحن شاعر أو ملحن أو مغن إلى حكايات الطير فلم يحن إلا معدودين فى أمة الأربعمائة مليون.، الناس، فيما يبدون للطيور ولنا يا سيدى، هجروا الحنين وخلعوا الحب وانسلخوا عن العاطفة.. سيدى، أعلمك إن لم تكن تعلم، أعلمك أن الطيور هاجرت. راحت تبحث عن مكان آمن تبنى فيه عشا يحميها من البرد والقيظ ويعترف بحقها فى أن تطير بحرية من شجرة لأخرى وأن تحب جهرا وبشفافية فوق الأغصان كما فعلت طيور أسمهان وفيروز. راحت تبحث عن شعب يقدس الطير كما قدسه المصريون الأوائل، أو شعب ما زال يغنى للطيور.
***
مسحت بيدى على شعر الفتاة وفى عينى دمعة خشيت أن تراها وانحنيت أهمس بكلمات غير واثقة.. اطمئنى يا ابنتى.. ستعود الطيور إن نحن عدنا.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي