الجميع يحذر من اتساع رقعة الحرب الدائرة بين إسرائيل والفلسطينيين وتحولها إلى حرب إقليمية. وتأتى هذه التخوفات على خلفية إعلان إيران على لسان وزير خارجيتها استعدادها التام للتصعيد المباشر والدخول فى الحرب الدائرة. ولكن بالرغم من ذلك لم تتسع دائرة الحرب بعد ثلاثة أسابيع من بداية طوفان الأقصى، وما يجرى من مناوشات فى جنوب لبنان، يتوقف عند مستوى الاستهداف المحدود بين حزب الله وبين جيش الاحتلال الإسرائيلى دون أن يحدث التصعيد المتوقع. مما يعنى أن حسابات إيران لم تصل بعد إلى نقطة الغليان. وفى هذه الأثناء تتحول ضغوط الحرب ونتائجها من الضغط على إسرائيل إلى الضغط على مصر. ولذلك نتساءل، هل ثمة كمين تجر إليه مصر؟
بداية، إن ما قامت به المقاومة فى غزة عن طريق تنفيذ عملية طوفان الأقصى، أعاد إحياء القضية الفلسطينية، وضرب مسار التطبيع، وأعاد المنطقة كلها إلى لغة المقاومة التى كادت أن تختفى من قاموسها السياسى. ولكن هذه العودة فجرت ثلاث قضايا على مستوى التخطيط الاستراتيجى للمقاومة. أولا، لقد حققت المقاومة أهداف العملية فى أول 24 ساعة، ولكنها تعمل بدون غطاء يمكنها من الاستمرار لوقت طويل. وبالرغم من صمود المقاومة إلى الآن، واستطاعتها ضرب العمق الإسرائيلى يوميا، فإن ذلك يأتى على حساب هدم نصف غزة وتشريد سكانها. ثانيا، لقد راهنت المقاومة على فكرة وحدة الساحات، بمعنى أن جميعها قد تنفجر فى وجه إسرائيل فى وقت واحد، ولكن أثبتت التجربة العملية أن قرار توحيد الساحات لا يصدر من غزة وإنما يصدر من طهران. يبدو أن إيران لم تر أن الوقت قد حان بالرغم من 4385 شهيدا، و13561 مصابا، والحصار التام لأهل غزة. ثالثا، إن المقاومة لا تملك استراتيجية لتوصيل المساعدات لأهل غزة، لاسيما بعدما فقدت أنفاقها التى كانت واصلة إلى الجانب المصرى، بسبب العمليات الإرهابية التى جرت فى مصر منذ سقوط الإخوان عام 2013.
• • •
لو ابتعدنا عن تفاصيل الصراع المنفجر، وأخذنا خطوة إلى الوراء فى محاولة إدراك أبعاد المشهد، فسنجد أن هناك سمة غالبة على كل أطراف المواجهة هذه المرة وهى الصبغة الدينية الأيديولوجية. فإيران هى الدولة الشيعية الوحيدة فى العالم، وتتفاخر بذلك، وتعمل منذ عقود على تصدير ثورتها إلى الخارج. ولقد نجحت فى بناء قوة إقليمية موالية لها فى العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن. والمفارقة، أنها اعتمدت على أقليات شيعية فى كل هذه الدول، ولكنها فى حالة فلسطين، لم تستطع فعل ذلك. ولكنها اعتمدت على مقاومة إسلامية سنية، ووجدت ضالتها فى الجهاد وحماس. والأخيرة مرتبطة بمشروع الإخوان فى المنطقة والذى كلفها الكثير وأفقدها الكثير. أما إسرائيل، فهى الدولة اليهودية الوحيدة فى العالم، وتتفاخر بذلك، ويؤكد ساستها على يهودية الدولة فى كل مناسبة، ووضعوا اعتراف فلسطين بيهودية الدولة الإسرائيلية كشرط من شروط السلام بين الطرفين. وعلى نفس المنوال جاءت تصريحات الرئيس الأمريكى عشية زيارته لإسرائيل يوم 18 أكتوبر حيث قال «لو لم تكن هناك إسرائيل فى الوجود لعملنا على إقامتها» معتبرا أن أمن اليهود عبر العالم مرتبط بسلامة إسرائيل. ارتباطا بهذا السياق الدينى، نستطيع أن نرى أن الأطراف الفاعلة فى الحرب الدائرة الآن كلها تعمل طبقا لأبعاد عقائدية، بينما المنطقة العربية بالكامل لا يوجد فيها مشروع عقائدى، وإنما مشروع تحديث الدولة الوطنية. وفى كل مرة تتجدد فيها المواجهة بين إسرائيل والمقاومة، تجد الدولة الوطنية نفسها فى مأزق وتدفع جزءا من ثمن المواجهة.
• • •
نعود لبعض نتائج عملية طوفان الأقصى، ونحاول أن نفهم ما هو الثمن الذى تدفعه مصر فى هذه المواجهة. ولن نستطرد فى التحليل، ولكن نستحضر ما قاله الرئيس المصرى فى المؤتمر الصحفى الذى عقده مع المستشار الألمانى فى القاهرة يوم 18 أكتوبر، حيث قال، «نحن نرى أن ما يحدث فى غزة الآن هو ليس فقط توجيه عمل عسكرى ضد حماس لكن محاولة لدفع المدنيين إلى اللجوء والهجرة إلى مصر... القطاع الآن تحت سيطرة الدولة الإسرائيلية. وخلال السنوات الماضية لن أقول إن إسرائيل لم تنجح فى السيطرة على بناء قدرات عسكرية للجماعات والفصائل الفلسطينية، ولكن أريد أن أقول، ما الذى جعل الموضوع يصل إلى هذا الوضع، هل وجد أفق لدولة فلسطينية خلال 20 ــ 30 سنة الماضية، بالرغم من المبادرات المختلفة التى صدرت من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، والمبادرات العربية على إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح. وطرحنا وجود قوات أممية أو عربية تضمن أمن واستقرار كل من الشعب والمواطن الإسرائيلى والفلسطينى، لكن هذا لم يحدث. إن فكرة نزوح أو تهجير الفلسطينيين من القطاع إلى مصر يعنى أن أمرا مماثلا سوف يحدث بتهجير الفلسطينيين من الضفة إلى الأردن، وبالتالى تصفية القضية، حيث تصبح فكرة الدولة الفلسطينية غير قابلة للتنفيذ. الأرض موجودة لكن الشعب غير موجود. الفكرة أن نقل المواطنين الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء عبارة عن نقل فكرة المقاومة والقتال من قطاع غزة إلى سيناء. وتصبح سيناء قاعدة للعمليات ضد إسرائيل، وفى هذه الحالة من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها وأمنها القومى، وفى إطار رد فعلها توجه ضرباتها للأراضى المصرية. ولا يجب أن يتم تبديد استثمار مصر الكبير فى السلام بفكرة غير قابلة للتنفيذ. يبقى أمرا مهما إذا كانت هناك فكرة للتهجير، توجد صحراء النقب فى إسرائيل حتى تنتهى الازمة».
• • •
إذا كانت مصر حسمت الموقف تماما على المدى القصير، فإليك الكمين على المدى الأبعد الذى ظهر من وراء حصار غزة. إن إسرائيل كقوة محتلة عليها تأمين وصول الاحتياجات الأساسية للسكان. لكن طالما استمرت العملية العسكرية الإسرائيلية فإن الحصار سيستمر، وتتحول المساعدات التى تتبرع بها مصر لأهلنا فى غزة، إلى عملية فك الارتباط بين غزة والاحتلال، وربطها عمليا بالحكومة المصرية، وهو الأمر الذى كان سائدا حتى عام 1967. وبذلك تحقق إسرائيل عمليا ما لم تستطع تحقيقه عبر الاتفاق. وإذا كانت مصر الآن حاسمة فى منع تحويل قضية فلسطين إلى سراب، فإن الطرف الآخر الذى ينطلق من معتقده الدينى، ولم يتنازل عنه على مدى قرون، سيستمر فى مناوراته أملا فى تحقيق مراده. الشاهد، أنه من جانب، على مصر الاستعداد بسيناريوهات للتعامل مع الوضع فى غزة لفترة زمنية طويلة. ويبدو أن هذا السيناريو مريح بالنسبة لإسرائيل، وحتى لإيران، والتى تدعم المقاومة دون أن تشمل خططها دعم أهل غزة. ومن جانب آخر، لابد من مراجعة المشروع السياسى الذى يحرك المنطقة بعدما تبخرت القومية العربية.