عصر الذئاب المتوحشة - سمير العيطة - بوابة الشروق
السبت 14 ديسمبر 2024 3:47 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عصر الذئاب المتوحشة

نشر فى : الأحد 24 نوفمبر 2024 - 6:40 م | آخر تحديث : الأحد 24 نوفمبر 2024 - 6:40 م

بُعيد تهنئته للرئيس الأمريكى المنتخب حديثا دونالد ترامب، قام الرئيس الفرنسى بخطبة تلفت الانتباه فى القمة الأوروبية ببودابست، خطبة قال فيها: «الأمور بسيطة بالنسبة لى، يتكوّن العالم من صنفين من المخلوقات، العاشبة (آكلة الأعشاب) واللاحمة (آكلة اللحوم). وإذا قررنا (أى أوروبا) أن نَبقى فقط بين آكلة الأعشاب، فسوف يفوز بنا آكلة اللحوم وسنكون فقط سوقا لهم. أعتقد أنّه من الأفضل أن نكون مخلوقات من فئة آكلة اللحوم والأعشاب سوية. لا أريد أن أكون عدوانيا.. لكنى لا أريد أن أترك أوروبا مسرحا ضخما يسكنه فقط آكلوا الأعشاب بحيث سيقوم آكلة اللحوم بافتراسهم حسب أجنداتهم"(!).

قال ذلك بعد أن عرض ثلاث تحديات أمام أوروبا: أنّ الولايات المتحدة هى التى ستدير الجغرافيا السياسية العالمية، وأنّ الصين، «زبونة أوروبا» كما وصفها، هى التى تدير نموذج التنمية العالمى، وأن الولايات المتحدة هى كرافعة الابتكارات التقنيّة. ليذهب بعد ذلك لزيارة الأرجنتين ورئيسها خافيير ميلاى، اليمينى الفاشى الأكثر تطرفا فى تاريخ البلاد والمناصر الصريح لترامب وللإبادة الجماعية الإسرائيلية للفلسطينيين والفلسطينيات فى غزة، أى باعتباره صورة نمطية لذئب من آكلة اللحوم. وأعلن من الأرجنتين قبل حضوره قمّة العشرين أنه لن يوقع اتفاقية التجارة الحرّة بين أوروبا ودول أمريكا اللاتينية Mercosur.

•  •  •

ما كان لمثل هذا التشبيه كهذا أن يصدُر عن رئيس فرنسى كالجنرال ديجول أو فرانسوا ميتران، اللذين كانا يضعان فرنسا، رغم اختلاف نهجهما، كقوة وازنة وسطية بين الأقطاب الكبرى المتناحرة. علما بأن كليهما عملا بنشاط كى تكون فرنسا، وأوروبا كذلك، قوة فاعلة على صعيد الجغرافيا السياسية والاقتصاد العالمى وكذلك التكنولوجيا. حيث لا ينبغى نسيان أنه لم يكن للنجاح الحالى لشركة إيرباص لصناعة الطائرات أن يتحقق دون الأساس الذى وضعه ديجول عبر دعم شركة إيروسباسيال القديمة (صانعة طائرات الكارافيل والكونكورد) وعبر عمل ميتران لتوحيد جهود صناعة الطيران الأوروبية.

لكن من الواضح أن هذا التشبيه يعنى خشية فرنسية وأوروبية من أن المرحلة القادمة التى يُنبئ بها نجاح ترامب الساحق فى الانتخابات، وتعييناته التى بدأت تظهر ملامحها، بمن فيهم الصناعى والمبتكر إيلون ماسك، تُنذر بمرحلة «نهش الذئاب المفترسة للحُملان، ولبعضها البعض»(!). مرحلة تزول معها المناداة بحرية التجارة العالمية، وبنقل التكنولوجيا إلى دول العالم الثالث لمساعدتها على التنمية، وبمجلس الأمن للأمم المتحدة كأساس لضبط الصراعات العالمية. وبالوقت نفسه تهميش مبادئ «حقوق الإنسان» و«العدالة الدولية»، لتحلّ مكانها فى الخلفية أيديولوجيات من عصور غابرة، دينية وغيرها، وكأن العالم البشرى يستبِق نهاياته «الألفية».

هذه الخشية لا تخص فرنسا وحدها، بل أيضا ألمانيا التى سقط تحالف حكومتها، وتعيش اليوم أفق انتخابات جديدة قد ينجح بنتيجتها رئيس الحزب الديموقراطى المسيحى، فريدريش ميرتز، الذى يريد أن تنخرط بلاده مباشرة فى الحرب الأوكرانية الروسية.

 

•  •  •

 

يبدو أن أول من قرأ ذلك التوجه الكبير نحو «عصر الذئاب المتوحشة» هو فلاديمير بوتين، الذى حاول استباق التداعيات.. لكن قطيع الذئاب المنافسة بات أكثر شراسة. فها هى الولايات المتحدة تستبِق استلام ترامب للحكم لتسمح لأوكرانيا بتصعيد وسائل الصراع إلى استخدام الصواريخ بعيدة المدى.

لحقه بنيامين نتنياهو، الذى تحجج بأحداث 7 أكتوبر 2023، كى يقفِز ويبرِز أنه ينتمى إلى فصيل الذئاب الكبيرة ويحول معظم المجتمع الإسرائيلى إلى منطق قطيع الذئاب كى يتمّ دون رحمة افتراس غزة والشعب الفلسطينى والضفة الغربية، بل ليُلحق بهم لبنان واللبنانيين، وسوريا والسوريين. وليُبعد عن الآفاق كل «حمامات وحمائم السلام» دون رادع. لقد حشد نتنياهو حوله معظم الذئاب الكبيرة فى العالم، وخاصّةً الذئب الأكبر، والمتمثل فى الولايات المتحدة. وبات منذ سنة وأكثر ينهش وينهش، دون أن يهتم حقا بما سيفعله بكل من يقتله ويشرده ويخرب موطنه.

كذلك واضح أن «الذئب» الإيرانى متفاجئ من قفزة نتنياهو المبالغة فى توحّشها ومتردّد فيما سيفعله. فقد خرج المشهد من أية ضوابط. فى حين أعلنت الذئاب الكبيرة أنه يجب التخلص منه وممن يدور فى فلكه. «الذئب» التركى ليس محاصرا بالطريقة ذاتها ولكنه أيضا متخوّف ومتردّد من انفلات التوحش. هذا بالرغم من أنه... ذئب متأصّل (!)، إذ تحكى الأسطورة أن الأتراك هم أبناء الذئبة أسينا، التى أنجبت مخلوقات نصف بشر ونصف ذئاب. وما زال بعض الأتراك المتطرفين يحيون بعضهم البعض كما تحيى الذئاب بعضها. وما زال كثرٌ فى تركيا يدعون أتاتورك بـ«الذئب».

•  •  •

ماذا عن البلدان العربية؟ هل بقى بينها راعٍ هادئ يمكن له أن يحمى المنطقة من الذئاب الكبيرة التى انفلتت؟ أم تحوّل بعضها إلى ذئابٍ صغيرة تشارك تلك الكبيرة فى الافتراس؟ أم أن القوى بينها جلس يتفرج على المشهد ويفتخِر فقط أمام العالم بألوان فروته؟ فى حين يستنجد الضعيف بين هذه البلدان العربية، فى خضم هجوم الذئاب، ودون جدوى، بضرورة تحييده عن صراع الذئاب على الحملان وبين بعضها البعض. وبعيداً عن صورة الذئاب هذه، أين تقف مختلف البلدان العربيّة حقّا أمام تحديات الجغرافيا السياسية والاقتصاد والتكنولوجيا التى وضعها الرئيس ماكرون؟

تختلف صورة الذئب فى التراث العربى عن تلك التركية. لقد مدحت أشعار العرب الذئب بجرأته وذكائه والقدرة على تحمّل الجوع وأنفته وترفّعه. لكن أيضا وصفت غدره وخبثه وعقوقه. فها طرفة بن العبد يُنشِد:

 فتىً ليس بابن العم كالذئب إن رأى ••• بصاحبه يوماً دماً فهو آكله

 وهذا الفرزدق يخاطب أحد مهجويه شعرا ينسب لأبى الفتح البستى، قائلا:

وكنت كذئب السوء لما رأى دما ••• بصاحبه يوما أعان على الدم

 لكن عمر أبو ريشة يضع اللوم على الراعى:

لا يُلام الذئب فى عدوانه   •  •  •   إن يكُ الراعى عدوّ الغنمِ

•  •  •

ماذا بقى إذا للبشر فى «عصر الذئاب المتوحِشة»؟ محكمة جنايات دولية، لم تتعطّل كما هو حال مجلس الأمن والأمم المتحدة، بل بقيت من نظامٍ أقرّه يومأً البشر. وتجرّأت على إصدار مذكرة توقيف دوليّة تجاه ذئبٍ مفترس ورفاقه... فهل ترتدّ الذئاب وتتعقّل؟

وإلا لا يبقى لنا سوى مطربتنا الرمز فيروز تنشِد وتعلو بأناشيدها فوق كلّ عواء الذئاب فى الأرض... لقد سرق الذئب نعجاتها ولكنّها انتصرت عليه وأحيَت للأبد بيروتها ولبنانها وقدسها وفلسطينها وشامها...

سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات