أمامك خياران، إما أن تألف المحفوظات وأحاديث المقاهى التى تلعن المستقبل، وتصف الشباب بأبشع الصفات. أو أن تنهض برؤية منصفة للعناصر المصرية الشابة، تدرك معها أهمية الاختلاف وضرورة التباين فى نسق الاهتمامات والأولويات والذائقة الفنية والأدبية بين الأجيال... إن كنت منحازا إلى الخيار الثانى فدعنى أحدثك بما يسرك. أحلق بك بعيدا عن أفلام محمد رمضان وأسلحته البيضاء والسوداء، وأغانى المهرجانات وقصات الشعر المرعبة والسراويل المنزلقة الكاشفة لما تحتها! دعنى آخذك إلى لقاء جمعنى بخيرة الشباب. نماذج نرجو أن نرى عليها الأبناء والأحفاد، مجموعة من طلاب كلية الهندسة بجامعة القاهرة، قسم هندسة الطيران والفضاء. وإذ ترجع بداية التعليم الهندسى فى مصر إلى سنة 1816 حينما أنشأ محمد على باشا «مدرسة المهندسخانة» فى القلعة، فإن نشأة قسم الطيران بهندسة القاهرة كقسم مستقل ترجع إلى عام 1953 فقط، ليضم فى عقده السابع عددا من الطلاب أمكنهم التفوق على طلاب كبرى جامعات العالم فى مسابقة تصميم وتصنيع الطائرات دون طيار AIAA Design Build Fly والتى ينظمها دوريا المعهد الأمريكى لعلوم الطيران والفضاء.
المنافسة الحامية يخوضها طلاب جامعات ستانفورد وهارفارد وإم آى تى MIT... بإمكانات تقنية وميزانيات للبحث والتطوير تتجاوز أضعاف ميزانيات وزارة التعليم العالى فى مصر على اختلاف مصارفها. لكن شرذمة من طلاب جامعة القاهرة بينهما طالبتان استطاعوا بإشراف أكاديمى رمزى أن يتصدروا المرحلة الأولى من المسابقة، والتى تجعل تصميمهم يفوز بالمركز الأول بلا منازع، ويترك طلاب جامعات العالم الأعلى تصنيفا وراءهم بأشواط.
***
حينما قرأت أخبار المسابقة حصلت على شحنة تفاؤل استثنائية، حملتنى على البحث عن هؤلاء الأبطال لا بغرض تكريمهم وتشجيعهم أدبيا فحسب، وإنما بغرض استقاء الدروس والعبر من تجربتهم بغية المساعدة على تعميمها، ودراسة التحديات التى تواجههم ومحاولة تذليلها، فضلا عن تحويل طاقات علمية متميزة، إلى مشروعات تدر ربحا على الدولة وعلى الجامعة والطلاب، وتستبقى تلك العقول النجيبة داخل حدود الوطن بحوافز حقيقية.
نجحت العلاقات العامة بالشركة القابضة للصناعات المعدنية فى الوصول إلى الطلاب فى فرقهم الدراسية المختلفة، وساعد على جمعهم للقاء مشرفهم الأكاديمى الدكتور أسامة سعيد الذى ظننته طالبا لأول وهلة لحداثة سنه وحسن اندماجه بين تلامذته، وكان بصحبته المهندس مهند دراز المدرس مساعد بالقسم، وكلاهما يدير فريق العمل الفائز بالمسابقة من خلال جمعية علمية لا يقل عدد أعضائها فى أى وقت عن خمسين طالبا من مختلف أقسام كلية الهندسة.
الوجوه يكسوها سكينة ووقار يليق بعلماء صغار السن، كبار العقل والمنطق. انصرف انتباهى أول الأمر إلى التحيز النوعى فى المجموعة، وعدم تمثيل الفتيات إلا بطالبتين! فأخبرونى أن هذا شأن كلية الهندسة بصفة عامة، وقسم الطيران بصفة خاصة، نظرا لطبيعة سوق العمل وليس لطبيعة التخصص ذاته.
فتيات الكلية اشتهرن بالتفوق فى الإبداع والتصميم الهندسى للطائرات، لكن سوق العمل فى مصر لا يتسع إلا للعاملين فى مجال الصيانة، وهم فى النهاية قد درسوا الميكانيكا! الأمر الذى يجعل الطالبة تختار بين ظروف عمل لا تلائم طبيعتها الأنثوية، أو السفر خارج البلاد، كدأب غالبية خريجى القسم من الجنسين! انطفأ شىء من الوهج فى صفحات الوجوه عندما أتى الحديث على ذكر فرص العمل، والهجرة التى صارت مرحلة عادية فى حياة كثير من طلابنا المتميزين، وشرا لابد منه إن أراد الشاب أن يحقق ذاته بغير سقوف.
***
استمعت إلى علمائنا الشباب ورؤيتهم لتحقيق النفع المتبادل بين الشركة وشركاتها التابعة من ناحية، وبين جمعيتهم العلمية ومجموعتهم الصغيرة على وجه التحديد من ناحية أخرى. هالنى ما لمست من رجاحة العقول وثبات المنطق ولباقة الحديث... هذا شاب متزن وجيه يطلب أن نجد فى شركاتنا مكانا لتصنيع المواد المركبة التى سوف ترسم مستقبل صناعة الطيران والفضاء. يعلم جيدا مفهوم المزايا التنافسية التى يمكن أن تتحقق لمصر إذا أقدمت على تلك الصناعة. يدرك أيضا التحديات التى تتعلق أحيانا بمتطلبات الأمن القومى، وعقبات استيراد بعض مستلزمات إنتاج الطائرات بدون طيار، والتى يصممونها ويصنعونها فى معاملهم ولها العديد من الاستخدامات المدنية.
تلك شابة أخرى تشرح لى الاستخدامات المدنية لطائراتهم الفائزة فى المسابقات (سواء لهذا العام أو أعوام سابقة) فترشدنى إلى أهميتها لأعمال المسح والرقابة والتأمين التى يتطلبها أى كيان صناعى، وطبعا الاستخدامات الزراعية المتعددة لهذا النوع من الطائرات. وتلك زميلتها تجيب بشكل عملى وبغير تردد على سؤال لى حول كيف يمكن دعمهم فى الأجل القصير؟ فتخبرنى أن أحدا لا يقدم لهم رعاية sponsorship خلال المراحل التالية للمسابقة، والتى تتضمن عملية تنفيذ التصميمات الهندسية، ومن ثم فيمكن أن تقدم الشركة القابضة الدعم لهم، وهو ما يسعدنى ويشرفنى عبر توجيه الإمكانات المادية والتقنية واللوجيستية للجمعية العلمية فى إطار بروتوكول مشترك يساعد على رعاية الطلاب خلال المسابقة وما بعدها (ما زلت فى انتظار مسودته). يمكن للطلاب استخدام الهناجر والمعدات وماكينات السى إن سى... إلى غير ذلك من احتياجات متاحة بمصانعنا. كما يمكن للشركة المساعدة فى تسهيل الإجراءات الجمركية، والموافقات الأمنية اللازمة للمواد المستوردة والمطلوبة لإنجاز المرحلة التالية من المسابقة.
كما توافقنا فى الأجلين المتوسط والطويل على تفعيل أوجه التعاون المشترك بين العلم والعمل، عبر إنشاء حاضنات صناعية ومشروعات صغيرة بالمشاركة مع الطلاب، وبرعاية مؤسساتهم التعليمية فى مشروعات متعددة، علما بأن شركات مثل النحاس والمواسير والألومنيوم والدلتا للصلب والحديد والصلب والنصر للتعدين والخزف والصينى... يمكنها جميعا الاستفادة من دراسات ترشيد استهلاك الطاقة، وتطوير الآلات والأفران، وتحسين استخدامات مصادر الطاقة المتجددة، واستخدام مبتكرات هؤلاء الطلاب لدعم جهود البحث والتطوير، والتى يمكن أن تضيف بشكل كبير إلى مختلف الشركات وفى مقدمتها شركة النصر لصناعة السيارات، التى حرصت على أن يحضر رئيس مجلس إدارتها اللقاء مع الطلاب.
***
وعن فرص العمل فى مصانع الشركات، فقد استحيت أن أقدمها على سبيل التحفيز لمجموعة من النابغين لا يطمعون بالتأكيد فى وظيفة روتينية لا ابتكار فيها ولا تجديد، ولكننى حدثتهم عن فرص لإدارة مشروعات يمتلكونها مناصفة مع الشركات التابعة وبتمويل منها، وخطوط إنتاج يديرونها بغير وصاية من أحد، وحاضنات أعمال يشكلون أهم وأبرز عناصرها... هذه بعض حوافز استبقائهم فى أرضهم قبل أن تتهافت عليهم جامعات وشركات العالم، وتخسر عقولهم مصر التى تبحث اليوم عن طيورها المهاجرة فى كل مكان.
استمر اجتماعنا الممتع نحو ساعتين، أحببت خلالهما حب الخير عن ذكر موعد لى مع الكاتب والبرلمانى الكبير الأستاذ يوسف القعيد، فدعوته للانضمام إلى الاجتماع قبل نهايته، وشحن بدوره طاقة إيجابية سجلنا لحظتها الفارقة بعدد من الصور التذكارية وومضات التكريم المستحق.