الرواية عن التاريخ عندما تصدر من معاصر لهذا التاريخ، يكون لها بعيد الأثر. وإذا كان الراوى مشاركا فى صنع الأحداث، فإن روايته تكتسب أهمية من نوع خاص. هذه أول ملاحظة عن كتاب سر المعبد الجزء الثانى الذى يبحر بك فى رحلة فكرية وتاريخية ممتعة، تفسر بعضا من الحوادث التى مرت بها مصر وبقيت لعقود ظاهرة مستعصية على التفسير. فمثلا لم يفسر أحد موضوع حريق القاهرة فى يناير 1952، كما فسره كتاب سر المعبد.
ولقد بحثت فى الكتاب عن أمر يشغلنى وهو سر تركيز الإخوان على التغير الذى جرى فى مصر منذ مائتى عام. لماذا هذا التاريخ بالذات؟ ولكن لم أجد تفسيرا مقنعا يفسر هذا الاهتمام. وقلت لعل الأمر ليس بالأهمية التى تصورتها. أو يكون السر هو قسوة ممارسات محمد على كما كشفها كتاب «كل رجال الباشا». وتمر الأيام وبالمصادفة وقع أمامى كتاب آخر اسمه «أول الآتين من الخلف»، وعليه صورة محمد على باشا. ولم أفهم المقصود من العنوان، ولكن بدأت فى القراءة. وأظن أننى وجدت التفسير.
فبالنسبة لقاعدة من الباحثين يعتبر محمد على صانعا لنخبة جديدة من المصريين لا تسير على نهج الأزهر ولكن تسير على فكر غربى مختلف عن الذى كان سائدا فى مصر مطلع القرن التاسع عشر. لكن من أين أتى محمد على بفكرة صناعة نخبة جديدة؟ هنا مربط الفرس. فطبقا لتحليل الكتاب، محمد على ورث ما جاء به نابليون بونابرت ليحققه. فلقد ترك بونابرت توجيها لخلفه كليبر، باختيار النجباء من أبناء مصر، لاسيما أبناء الأغنياء والمسئولين.. إلخ، للسفر والتعلم فى الخارج، لكى يصنع عقولهم المنسجمة مع الفكر الفرنسى. ومن ثم تنشأ نخبة متصالحة مع الغرب ومنعزلة عن الموروث الإسلامى الحضارى، والفكرى، والوجدانى.
فإذا صنعت نخبة منفصلة عن مجتمعها، ومرتبطة بمجتمع آخر مثل الفرنسى، فمن البديهى أن تبحر تلك النخبة بالدولة باتجاه المجتمع الذى تريده. وهو ما كان طبقا لتحليل الكتاب. وللعلم، كتاب أول الآتين من الخلف به جهد بحثى شاق جدا، لا يقوى عليه إلا باحث ذو همة عالية. لن أكشف باقى ما جاء فى الكتاب، لأترك للقارئ الذى يحب الاطلاع حرية القراءة بدون فقدان المتعة. ولكن نشير لمسألة هامة بخصوص عنوان الكتاب. فهو يمس محمد على نفسه، بعد العودة لأصوله. ومن اللطيف أن الكتاب يستخدم أسلوبا نقديا مباشرا ويطرح على القارئ أسئلة تثير الفضول. فمثلا، لماذا يسعى تاجر دخان ميسور الحال، ومتزوج من ابنة رئيس البلدة التى يعيش فيها، ترك كل هذا خلفه، ويلبى نداء الدولة العثمانية، ليذهب إلى دولة بعيدة وينخرط فى قتال الفرنسيين؟ لابد أن تصوره للمكاسب من هذه الخطوة يفوق حاله الذى هو عليه.. أليس كذلك؟
بعد قراءة الكتاب شعرت بالارتباط بين كتاب سر المعبد وهذا الكتاب. فالكتابان يتحدثان عن صميم تنظيمات سرية لا يعرف حقيقتها وجوهرها إلا القليل جدا من الناس. حتى كنت أبحث مرة فى اليوتيوب على شيء فوجدت أمامى حلقة مسجلة، جرت فى عام 2013، بين مؤلف كتاب سر المعبد ومؤلف كتاب أول الآتين من الخلف. ودهشت أن هذا الحوار جرى فى معرض الكتاب. ولكن للأسف الصوت كان رديئا جدا فى التسجيل فلم أستطع سماع جوهر المناظرة أو الحوار.
وازداد الشعور داخلى أن ثمة حوارا فكريا يجرى بين الكتابين. ففى سر المعبد تبحر من داخل تنظيم الإخوان لتصل إلى مفاجأة فى نهاية الكتاب، أن العالم يديره ثلاثة تنظيمات، واحد ممثل عن كل دين سماوى، وتلتقى جميعا فى مكان واحد وهو المعبد. ومن يملك مفاتيح المعبد أو يديره بمعنى آخر يقبع فى لندن، وهو المخابرات البريطانية. أما كتاب أول الآتين من الخلف، وهو متوافر على النت، فيكشف لك ما لا يمكن تصوره، ولا يخطر على البال من الأساس عن ماهية المنظمات والتنظيمات السرية التاريخية، ومن ينتمى إليها، وما هو منهجها، وكيف تؤثر فى الشعوب بطريقة عميقة. ويكشف أكثر من لندن، حيث يغوص لأعماق باريس، وسالونيكا، وقولة، وغيرها، وكأنك تطالع تاريخا موازيا لم تره العين من قبل.
المهم من الكتابين فى رأى أن التاريخ فعل مستمر ومؤثر وليس ماضيا حدث وانتهى. وأن التاريخ ليس أحداثا بلا رابط ولكن قوة متصلة تحركه لغاية وهدف. وبينما يعتبر البعض دراسة الظواهر هى التى تمسك بالحدث ومن ثم تفسر ما يجرى، وأن تراكم التفاسير قد يصنع نظرية شاملة، فإن البعض الآخر يعتبر أن السياق الذى يؤدى إلى الحدث أهم من الحدث نفسه. وأن التاريخ يسير بدفع القوة الناعمة غير الملموسة التى يبقى أثرها، أى بالأفكار وصناعة العقول، أكثر من دفع القوة المادية الملموسة التى تعتبر عارضا متنقلا بين الدول. فكم من ممالك ودول هلكت ولم يبق منها أثر، بينما الأفكار تستمر، خصوصا التى وراءها فاعل يحملها. وللقارئ بعد مطالعة الكتابين أن يقبل أو يرفض ما يشاء. ولكن الثناء على روح البحث والتحرى التى تبغى الفهم لحقيقة ما يجرى ويغفل عنه الناس.