أزمات كبرى في العلاقات الدولية المعاصرة - محمد العجاتي - بوابة الشروق
السبت 26 يوليه 2025 3:29 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

أزمات كبرى في العلاقات الدولية المعاصرة

نشر فى : الجمعة 25 يوليه 2025 - 9:40 م | آخر تحديث : الجمعة 25 يوليه 2025 - 9:40 م

بعد الحرب العالمية الثانية، تأسس النظام الدولى على توازن بين المعسكرين الاشتراكى والرأسمالى، ما دفع القوى الغربية لتبنّى نموذج «دولة الرفاه» كضرورة لإعادة الإعمار واحتواء التحدى الاشتراكى. مع انهيار الاتحاد السوفيتى، اعتبرت الرأسمالية نفسها منتصرة، وفرضت أكثر نسخها تطرفًا: النيوليبرالية، التى أعادت تشكيل الاقتصاد العالمى عبر الخصخصة، التقشف، وتفكيك الدور الاجتماعى للدولة، ممهّدة بذلك لأزمة بنيوية عميقة لا مجرد خلل عابر.

أبرز مظاهر هذا الانهيار تكمن فى الارتفاع المهول لمعدلات الفقر عالميًا، حيث يعيش أكثر من 700 مليون شخص تحت خط الفقر. وفى حين يفترض أن العولمة و«التنمية» تقودا إلى تقليص هذا الرقم، فقد شهدنا تضاعف ديون القطاعين العام والخاص، لتبلغ فى عام 2020 ما نسبته 356% من الناتج العالمى، بحسب معهد التمويل الدولى.

غير أن هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن أزمة مالية، بل تكشف عن خلل هيكلى فى منظومة التنمية ذاتها، والتى لطالما قُدّمت كهدف عالمى محايد. لكن الحقيقة أن مكافحة الفقر لا يمكن اختزالها فى رفع الدخل أو تحسين مؤشرات الاستهلاك، بل تتطلب إصلاحًا بنيويًا عميقًا، يشمل العدالة فى النوع، والعرق، والجغرافيا. كما يوضح دانيال هاميت فى كتابه «التنمية العالمية: المبادئ الأساسية»، فـ«التنمية ليست فقط مسألة اقتصادية أو مادية، بل قضية معقدة تشمل السياسة، الثقافة، النوع الاجتماعى، البيئة، والسلطة».

فى موازاة تفاقم الفقر، تشهد البشرية ارتفاعًا غير مسبوق فى معدلات عدم المساواة. فوفق تقرير أوكسفام 2024، يمتلك أغنى 1% من سكان العالم أكثر من نصف الثروة العالمية. بل وفى دول مثل الولايات المتحدة، يتجاوز نصيب هذا الواحد بالمائة حاجز الـ50% من الثروة القومية. هذه الأرقام لا تعكس فقط اختلالًا فى التوزيع، بل تفضح طبيعة النظام الذى ينتج الثروة ويحتكرها. وهذا يؤكد أن زيادة الفقر لا تعود كما يوهمنا الاقتصاديون لندرة الموارد بقدر ما هى انعكاس لغياب العدالة فى توزيع هذه الموارد.

الأخطر من ذلك أن جزءًا كبيرًا من هذه الثروات غير ناتج عن عمل أو إنتاج، بل هو ريع صريح: يقول تقرير أوكسفام الصادر هذا العام بعنوان «الآخذون لا الصانعون: الفقر الجائر والثروة غير المستحقة – الاستعمار» إن 60%  من ثروة المليارديرات مصدرها غير مكتسب، ما بين وراثة، أو احتكار، وعلاقات زبائنية. بل إن جميع المليارديرات الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا فى 2023، بحسب التقرير، هم ورثة بالكامل، دون أى مساهمة إنتاجية تذكر.

فى مواجهة هذه التصدعات، لا تملك الرأسمالية المعولمة سوى أن تفعل ما دأبت عليه: السعى لتجاوز أزماتها البنيوية عبر زيادة الإنتاج، تخفيض الأجور، وغزو أسواق جديدة. لكن هذه الوصفات، التى كانت تُقدّم سابقًا على أنها مخرج من الأزمات، لم تعد تنجح على المدى البعيد، بل باتت تُسرّع من تعرية التناقضات البنيوية للنظام.

• • •

نتيجة لذلك، تآكلت أنظمة الحماية الاجتماعية بفعل برامج التقشف والخصخصة التى فرضتها مؤسسات التمويل الدولية. أدى ذلك إلى انكشاف شرائح واسعة من السكان أمام المخاطر الاقتصادية، وحرمان الملايين من الرعاية الصحية، والتعليم، والسكن اللائق.

فى الجنوب العالمي، تزايدت حدة الديون  بسبب غياب الرقابة ونتيجة استغلال الشمال، وغياب آليات فعالة لإعادة الهيكلة العادلة. تقرير أوكسفام يوضح أن الجنوب ينقل 30 مليون دولار فى الساعة إلى الشمال عبر أنظمة خدمة الدين وتحويل الأرباح، مما يعنى أن الاستعمار المالى لا يزال قائمًا، حتى بعد زوال الاستعمار السياسى.

كسائر الأزمات البنيوية تتشابك الأبعاد المختلفة لتهدد النظام ككل، فتعمّقت هذه الأزمة الاقتصادية العالمية مع الاضطرابات التى ضربت سلاسل التوريد والغذاء، لا سيما بعد جائحة كورونا، والحرب فى أوكرانيا، والتغير المناخى المتسارع. فى هذا السياق، لم يعد شىء فى الحياة العامة بمنأى عن السوق: التعليم، الصحة، المياه، وحتى الهواء النقى، كلها أصبحت خاضعة لآليات العرض والطلب، ما أدى إلى تسليع الحياة وتهميش ملايين البشر.

وإذا كانت النيوليبرالية عمّقت الفقر والتفاوت، فقد كانت أيضًا من أبرز أسباب الكارثة البيئية، بمنطقها القائم على التوسع والاستهلاك والربح على حساب الطبيعة. النموذج ذاته الذى يصنع الفجوة الاجتماعية هو ما يدفع الكوكب نحو الانهيار البيئى، فيما تكتفى المنظومة الدولية بـ«الغسيل الأخضر» كغطاء دعائى، بينما تستمر كبرى الشركات فى استثمار 95% من أموالها فى الوقود الأحفورى.

يمكننا القول إن الرأسمالية النيوليبرالية، بصيغتها المالية الحالية، وصلت إلى نهاية الطريق. بل وأصبحت تهدد النظام العالمى ككل، وهذا ما تطرحه راديكا ديساى بوضوح فى كتابها «الرأسمالية والكورونا والحرب»، حيث تعتبر أن الرأسمالية حين تعجز عن إدارة أزماتها بالأسواق، تلجأ إلى الحروب والعقوبات لإعادة إنتاج هيمنتها. تُستخدم الحرب اليوم، بحسب ديساى، كأداة لخلق طلب صناعى فى ظل ركود السوق، وكذريعة لزيادة الإنفاق العام لصالح الشركات، وكوسيلة لإعادة ضبط الاقتصاد عبر التدمير ثم إعادة الإعمار. وهو ما نشهده فى غزة حيث تلعب إسرائيل دورها فى النظام الرأسمالى العالمى فى هذا الشأن، فالحرب لم تعد استثناءً، بل باتت من آليات اشتغال النظام النيوليبرالى ذاته.

وفى قلب هذه الدوامة، تبرز المنطقة العربية كأحد أكثر أقاليم العالم تأزمًا على المستوى الاقتصادى والاجتماعى، إذ تُسجّل أعلى معدلات اللامساواة فى توزيع الدخل والثروة، بحسب تقرير الإسكوا لعام 2021. كما تُعد من بين الأضعف أداءً فى مؤشرات التنمية البشرية، رغم ما تملكه من موارد. ووفق البنك الدولى، يعيش نحو25% من سكان المنطقة فى فقر متعدد الأبعاد، بينما تجاوز الدين العام فى عدة دول عربية حاجز الـ 100% من الناتج المحلى، فى ظل انغماس مستمر فى وصفات نيوليبرالية قاسية: خصخصة، تقشف، وتراجع دور الدولة، ما فاقم الهشاشة الاجتماعية بدلًا من معالجتها.

• • •

فى مواجهة هذا الانهيار المتسارع، لا يكفى تشخيص الأعراض، بل لا بد من إعادة بناء المشروع التنموى من جذوره، عبر تصور جديد للعدالة الاقتصادية، يخرج من قبضة النيوليبرالية ويفتح الباب أمام بدائل أكثر عدلًا وإنسانية. والبديل لا يبدأ من الصفر، بل من العودة إلى أدوات لطالما همّشتها النيوليبرالية عبر إعادة بناء دولة الرفاه، بمضمون إنتاجى لا ريعى، وإصلاح النظام المالى محليًا وعالميًا، بما يشمل كسر هيمنة الدولار وضبط المضاربات، وكذلك تنويع أنماط الملكية: العامة، التعاونية، المجتمعية، وأخيرا التحرر من استعمار العقول، عبر مقاومة سردية «لا بديل» التى تروّج لها النخب النيوليبرالية.

الخيار اليوم أمام البشرية واضح، إما الانجراف وراء أزمات نظام يتآكل، أو التحرك الواعى نحو نموذج اقتصادى بديل يضع البشر والبيئة قبل الأرباح. ولعل البداية تكون فى استعادة المعنى الحقيقى للتنمية – كما يذكّرنا دانيال هاميت – باعتبارها مشروعًا سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، لا مجرد نمو رقمى أو زيادة فى الدخل، بل صراع من أجل العدالة والتوزيع والكرامة والسيادة. وهذا ركن أساسى سواء فى إصلاح النظام القائم أو فى خلق بديل أكثر كفاءة.

 

محمد العجاتي باحث والمدير التنفيذي لمنتدى البدائل العربي
التعليقات