تشهد العلاقات الدولية تحولات متسارعة مع بروز قوى صاعدة من الجنوب العالمى، تتقدمها كل من الهند وروسيا والصين، التى تسعى إلى بناء أنموذج مواز للنظام الغربى السائد. تطرح هذه المقالة تساؤلا رئيسا: هل تنجح «الترويكا» الهندية ــــ الروسية ــــ الصينية فى قيادة العالم وإحداث تغيير فى بنية النظام الدولى؟
أثارت قمة منظمة شنغهاى للتعاون الأمنى اهتمام العالم الغربى، الذى رأى فى خطوات الدول الأعضاء، ولاسيما الصين، تهديدا مباشرا لمصالحه الاقتصادية والاستراتيجية. فقد أجمعت وسائل الإعلام الغربية على أن القمة جاءت لدعم الموقف المهيمن لبكين، بخاصة مع الحديث عن إنشاء بنك للمنظمة يتيح للدول الأعضاء تمويل مشروعاتها بعيدا من النظام المالى الغربى. وزادت هذه المخاوف بعد العرض العسكرى الضخم الذى تضمن الكشف عن أسلحة صينية متطورة، عرض بعضها للمرة الأولى، بينها صواريخ باليستية قادرة على حمل رءوس نووية يصعب اكتشافها أو اعتراضها، وذلك بحضور عدد من الزعماء والقادة المقربين من الصين.
وفى الوقت نفسه، فرض الرئيس الأمريكى عقوبات إضافية على الهند بسبب شرائها النفط الروسى، ثم نشر تغريدة أعرب فيها عن قناعته بخسارة الهند وروسيا لمصلحة الصين، قبل أن يبدأ باتخاذ خطوات لردم الصدع مع نيودلهى.
تشهد العلاقات الدولية فى السنوات الأخيرة تحولات ملموسة، إذ بدأت دول الجنوب، بقيادة الهند وروسيا والصين، تنسق جهودها لمواجهة الهيمنة الغربية الاقتصادية والسياسية. ويطرح هذا التقارب تساؤلات جوهرية حول مستقبل النظام العالمى، ومدى قدرة هذه الدول على إعادة تشكيل توازن جديد بعيدا من القوى التقليدية.
فى المقابل، تواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون تحديات متصاعدة للحفاظ على مصالحهم ونفوذهم، ما يدفعهم لتبنى استراتيجيات متباينة تتراوح بين التكيف والاحتواء واستغلال الخلافات.
تشير المؤشرات الجيوسياسية إلى أن روسيا والصين والهند تمتلك بالفعل المقومات الأساسية لتشكيل "ترويكا إقليمية" ذات تأثير مباشر فى توازن القوى العالمي. فهى تجمع بين موارد اقتصادية ضخمة، وقدرات عسكرية متقدمة، ودور دبلوماسى متنام، ما يعزز فرصها فى دفع النظام الدولى نحو تعددية قطبية؛ إلا أن نجاح هذه الترويكا مرهون بقدرتها على تجاوز تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية.
• • •
من غير المرجح أن تشكل مجموعة "بريكس" ومنظمة شنغهاى للتعاون نظاما عالميا بديلا بالكامل، بقدر ما ستوفران مسارا موازيا يتيح للجنوب العالمى مساحة أوسع للنفاذ الاقتصادى والسياسي، ويعزز التعددية القطبية.
يعتمد نجاح هذا التحول على قدرة الأطراف الثلاثة الكبرى (الهند، الصين، روسيا) على إدارة خلافاتها الداخلية وتحويل هذه التكتلات إلى أطر مؤسسية مستدامة وقابلة للتوسع، مع الحفاظ على استقلالية القرار وعدم الارتهان المفرط للغرب.
تتصدر الصين العالم فى مجالات التكنولوجيا، ورأس المال، والاستثمارات الكبرى، بينما تعد الهند من أكبر مراكز القوى العاملة والموارد البشرية، وتتميز روسيا بقدراتها العسكرية الهائلة واحتياطاتها الضخمة من الطاقة. هذا التكامل يعزز إمكانية صوغ أنموذج جديد للتعاون الدولى يقوم على المصالح المشتركة بدلا من الارتهان للمحاور التقليدية أو المواجهة الحادة.
مع ذلك، تظل هناك تحديات بارزة، أبرزها تحفظات نيودلهى وموسكو على الاعتراف الكامل بالدور القيادى للصين، فضلا عن التنافس الإقليمى والقلق من الهيمنة. وعلى الرغم من أن قدرة الصين على تحقيق أهدافها قد تكون محدودة، إلا أن نهجها يبدو أكثر استقرارا من السياسات الأمريكية المتقلبة، خصوصا خلال فترة إدارة ترامب التى دفعت كثيرا من الدول إلى إعادة تقييم تحالفاتها. فى هذا السياق، يظهر التعاون مع الصين خيارا واقعيا لروسيا والهند، ولاسيما فى مجالات التجارة والطاقة.
هل تستطيع الترويكا التغيير؟
تمتلك الترويكا الأدوات اللازمة للتأثير فى النظام العالمي، خصوصا فى قطاعات الطاقة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد. لكنها لا تكفى لتأسيس قيادة عالمية جديدة من دون معالجة الخلافات السياسية والاقتصادية الداخلية، وصوغ أرضية مشتركة مبنية على المصالح والاحترام المتبادل.
التوصيات الاستراتيجية
1. إرساء إطار سياسى واضح للتعاون
صوغ ميثاق مشترك يحدد الأهداف والآليات الأساسية للتعاون، بما فى ذلك إدارة الأزمات وتبادل المعلومات وتحديد الأولويات.
2. تعزيز التجارة وسلاسل التوريد المشتركة
إبرام اتفاقيات تجارية تفضيلية وتقليل الرسوم الجمركية فى القطاعات الحيوية.
استثمارات مشتركة فى سلاسل التوريد الاستراتيجية (المعادن النادرة، البطاريات، الرقائق الإلكترونية) لتقليل التبعية لجهة واحدة.
3. إدارة الخلافات الاقتصادية بحكمة
وضع آليات لحل النزاعات التجارية عبر وساطات مشتركة بعيدا من التصعيد السياسي.
إن الترويكا الهندية - الروسية - الصينية أمام فرصة تاريخية لإعادة صوغ موازين القوى العالمية؛ فالتقارب بين هذه الدول يعزز من قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة بعيدا من الضغوط الغربية، على الرغم من العراقيل والعقبات الأمريكية ومساعى واشنطن لإضعاف هذا التحالف. ومع أن الترويكا تواجه تحديات حقيقية، أبرزها الاعتراف بدور الصين القيادى وتوازن المصالح بين نيودلهى وبكين، إلا أن نجاحها فى تحويل العلاقات الاقتصادية إلى شراكة استراتيجية قائمة على الاحترام المتبادل والتكامل، قد يفتح الباب أمام نظام عالمى جديد يقوم على التعددية لا الهيمنة.
وائل عواد
مؤسسة الفكر العربى
النص الأصلى: