فى ليلة رعدية مفاجئة، غرقت الإسكندرية تحت وابل من الأمطار والصواعق. مشهد يلخص تشابك الكوارث المحلية مع أزمة مناخية عالمية، فأزمة المناخ لم تعد مجرد تحذير علمى أو سيناريو مستقبلى محتمل، بل أصبحت واقعًا حيًا يفرض نفسه على الجميع. إذا كان «تصاعد الصراعات يمثل أزمة بنيوية للنظام الدولى»، هناك نوعية أخرى من الأزمات قد تبدو للوهلة الأولى تقنية، لكنها فى جوهرها نتاج مباشر لطبيعة هذا النظام وآليات اشتغاله: أزمة المناخ أبرزها، فهى ليست فقط أحد تجلياته، بل أيضًا من أبرز ما يهدد استمراريته. ما نشهده اليوم من كوارث بيئية واضطراب للأنظمة البيئية لم يعد يُمكن التعامل معه كأحداث طبيعية متفرقة، بل كأعراض لانهيار منظومة كاملة من توازنات الكوكب. وهو ما يؤكد أنها ليست أزمة يواجهها النظام العالمى بل هى نتيجة أزمة فى بنية النظام العالمى، يعيد إنتاجها عبر حلول زائفة وتحييد سياسى لأى تصور بديل. لذا فإن الحديث عن أزمة مناخية دون الحديث عن بنية السلطة العالمية هو فى جوهره إنكار سياسى مقنّع.
• • •
لذلك فإن التعامل السياسى والاقتصادى معها لا يزال يعانى من التخبط والتواطؤ فى كثير من الأحيان. إذ تهيمن مقاربات تقنية أو استهلاكية ضيقة، تتحدث عن «حياد كربونى» أو «زراعة أشجار» أو «استبدال الأكياس البلاستيكية»، بينما يتجاهل الخطاب السائد الأسباب البنيوية التى دفعت العالم إلى هذا المنحدر، وعلى رأسها منطق الربح والنمو اللامحدود الذى يحكم النظام الرأسمالى العالمى.
ما يميز هذه الكارثة عن غيرها أنها ليست مجرد تهديد بيئى، بل تهديد شامل للنظام الدولى بأكمله: تهديد للتوازنات الجغرافية، وللعلاقات بين الشمال والجنوب، وللعدالة داخل كل مجتمع. لهذا، فإن ما نحتاجه اليوم ليس فقط استجابات عاجلة، بل رؤية جذرية جديدة للعالم، تُعيد تعريف مفاهيم مثل التنمية، الرفاه، والسيادة.
• • •
بدأت جذور الأزمة البيئية بالتكوّن مع صعود نمط الإنتاج الصناعى، لكنها تسارعت بشكل غير مسبوق منذ منتصف القرن العشرين، فيما يُعرف بـ«الانفجار الكبير» للتلوث والاستخراج والنمو. وبينما كانت الحضارات القديمة تستنزف محيطها البيئى تدريجيًا، جاءت الرأسمالية الصناعية لتربط الاستغلال المنهجى للطبيعة بمنطق الربح والتوسع الدائم. وصولا لهذه المرحلة من التراكم القائم على استخراج الوقود الأحفورى، وهو ما يصفه البعض بـ«الرأسمالية الأحفورية». هذا النمط لم ينتج فقط كميات مهولة من الغازات الدفيئة، بل خلق تمايزًا عالميًا غير مسبوق: نخب غنية فى الشمال مسئولة عن التلوث، وطبقات فقيرة فى الجنوب تدفع الثمن من أمنها الغذائى ومواردها المائية وأراضيها.
هذا التفاوت ليس تاريخيًا فقط، بل مستمر حتى اليوم: أغنى 1% من البشر يطلقون وحدهم أكثر من ضعف ما تطلقه نصف البشرية الأفقر من انبعاثات. الدول الكبرى، خاصة المستعمرات السابقة، لا تزال تهيمن على أنظمة الإنتاج والمعرفة والسياسات، بينما يتم تحميل الجنوب مسئولية جماعية وكأن الانبعاثات خطيئة بشرية عامة لا بنية استعمارية رأسمالية.
فى محاولة لمواجهة هذه الوضعية شهد العقد الأخير تصاعدًا فى حركات المناخ، من «أيام الجمعة من أجل المستقبل» إلى «تمرد الانقراض» و«الميثاق الأخضر الجديد». ورغم تنوع المشارب الفكرية، هناك مجموعة من المطالب الجوهرية توحّد هذه الحركات: الإنهاء التدريجى للوقود الأحفورى، التحول إلى مصادر طاقة متجددة مع ضمان العدالة الاجتماعية. كذلك طرحوا العدالة المناخية كمبدأ يربط بين العدالة البيئية والاقتصادية والعرقية. ويدعون إلى إلغاء الديون المناخية والتاريخية للدول الغنية. بالإضافة لإشراك المجتمعات المحلية والسكان الأصليين فى صنع القرار.
• • •
رغم ما تحقق من تقدم فى الوعى العام والسياسات المحلية فى بعض الدول، لا تزال السياسات الدولية عاجزة أو متواطئة. فالاتفاقيات الكبرى مثل اتفاق باريس 2015 تفتقر لآليات إلزامية، وما يُعرف بـ«تمويل المناخ» إما غير كافٍ أو مشروط بما يخدم مصالح الجهات المانحة. على سبيل المثال مشاريع مثل الهيدروجين الأخضر أو مزارع الطاقة الشمسية المخصصة للتصدير، حيث يتم تحويل مساحات شاسعة من أراضى الجنوب العربى إلى مزوّد للطاقة النظيفة لصالح أوروبا، دون أن تنعم شعوبها بالعدالة أو البنية التحتية/ فيما يمكننا أن نطلق عليه أنه استعمار بيئى جديد.
بينما منظمة الأمم المتحدة ومنصاتها البيئية مثل IPCC وUNFCCC تقدم خطابًا علميًا مهمًا، لكنها محكومة بتوازنات القوى التى تحد من قدراتها وتشل حركتها فى كثير من الأحيان مثلما الحال مع وصول ترامب ورفاقه من اليمين الشعبوى فى مختلف أرجاء العالم. حيث شكلت إدارة ترامب ضربة كبرى لأى أمل بتوافق عالمى. انسحب من اتفاق باريس، وشجع استخراج الفحم والنفط، وقلّص تمويل برامج الأبحاث البيئية. تركيزه على إنكار العلم ونزع الضوابط البيئية أعاد مشهد الهروب الجماعى من المسئولية. بينما أغلب دول الجنوب تشارك حضورًا لا نفوذًا، بينما تُهيمن الدول الصناعية والشركات الكبرى على القرارات والمسارات.
خير مثال على ذلك أنه رغم توقيع اتفاق باريس عام 2015، الذى يهدف لحصر الاحترار دون 1.5 درجة مئوية، فإن الانبعاثات العالمية لم تنخفض بل ارتفعت بنسبة 6% بين 2015 و2023. الدول الصناعية المسئولة تاريخيًا عن أكثر من 70% من الانبعاثات التراكمية تتهرب من التخفيض الجذرى، وتكتفى بتعهدات «الحياد الكربونى بحلول 2050»، دون التزامات قانونية.
• • •
هذا النظام الدولى غير قادر على إنتاج حلول حقيقية لأزمة المناخ، بل يُنتج سياسات خادعة تحت عنوان «التحول الأخضر» تكرّس شرعيته وتفتح له فرص ربح جديدة، فيما يُعرف بالغسيل الأخضر. نموذج ذلك ما تفعله شركة BP التى تدّعى التحول للطاقة النظيفة بينما تستثمر 97% من أموالها فى الوقود الأحفورى. وتلعب إسرائيل دورًا مركبًا فى هذا الغسيل: تزرع غابات على أنقاض القرى الفلسطينية بزعم بيئى يخفى أهدافًا استيطانية، وتُقدَّم كمختبر بيئى عالمى رغم تدميرها الممنهج للبيئة فى غزة ولبنان وسوريا عبر القصف، والحصار، وتلويث الموارد.
تعيش المنطقة العربية مفارقة مركبة: من جهة، تتعرض لتأثيرات مناخية حادة (تصحر، شح المياه، موجات حر، تراجع المحاصيل)، ومن جهة أخرى تعتمد العديد من دولها اقتصاديًا على استخراج الوقود الأحفورى. فى دول مثل الجزائر والعراق وليبيا، فإن أى خطة لخفض الاستخراج تعنى تهديدًا مباشرًا لمداخيل الدولة، مما يطرح معضلة «العدالة الانتقالية المناخية». لا يمكن مطالبة هذه الدول بالتحول دون تقديم ضمانات مالية وتكنولوجية وسيادية حقيقية.
يُقترح اليوم نموذج بديل يقوم على ما يسميه جورج مونبيو: «الاكتفاء الخاص والرفاهية العامة». أى أن يتوفر لكل فرد حد معقول من الحاجات الخاصة (سكن، طاقة، نقل)، لكن يكون التركيز الأكبر على تعميم الخدمات العامة عالية الجودة: مستشفيات، حدائق، مواصلات، خدمات ثقافية. هذا التصور يربط بين العدالة الاجتماعية والبيئية، ويدعو إلى فرض ضرائب على الثروة بدل ضرائب الكربون، إلغاء الديون المناخية، والاستثمار فى خدمات عامة خضراء. وأخيرا إعادة تعريف النمو من حيث الجودة لا الكمية.
• • •
واحد من الآثار الأساسية لهذا الخلل هو انتشار الأوبئة، وقد كشفت جائحة كورونا هشاشة النظام العالمى، وذكّرتنا بأن المصير واحد فى مواجهة الأزمات العابرة للحدود. لكن بدلًا من ترسيخ التضامن وانتهاز هذه الفرصة لإصلاحات جذرية، استُغلت لتعميق اللامساواة، وتعزيز هيمنة الشركات الكبرى محليا ودوليا، وتجاهُل الحاجة المُلِحّة لتحول بيئى عادل.
كما أن تصاعد الصراعات يقود لتفكك النظام الدولى، فإن الأزمة البيئية تعد عنصرا جديدا قد يقود لهذا التفكك، فإذا لم تُواجه الأزمة البيئية بجذرها، فسنكون أمام انهيارين: انهيار المناخ وانهيار النظام الدولى القائم على شرعية الأمم المتحدة، القوانين الدولية، وحقوق الإنسان. فالنظام الذى لا يستطيع حماية الحياة على الأرض، سيفقد مبرر وجوده الأخلاقى والسياسى. العدالة المناخية ليست فقط مهمة بيئية، بل مشروعا إصلاحيا للنظام الدولى تحررى يُعيد توزيع السلطة والموارد، ويعيد تعريف معنى التقدم والكرامة.