«نحن المستقبل! نحن التغيير!» كانت هذه الجملة تتكرر بلا توقف بين آلاف المحتشدين فى ساحة وسط حى بروكلين الشهير حيث عمودية نيويورك، حيث ارتفعت لافتات كُتب عليها «صوتنا له قيمة» و«العدالة الآن» تحت أضواء نيون نيويورك حين أُعلن فوز زهران ممدانى ممثل الجناح اليسارى الجذرى داخل الحزب الديمقراطى فى انتخابات عمدة مدينة نيويورك لعام 2025، بلغت نسبة فوزه نحو 50.4% مقابل نحو41.6% لمنافسه أندرو كومو الذى كان يقدم نفسه كصوت «الخبرة» فى مواجهة التيارات التقدمية الصاعدة. ليقدم ممدانى خطاب انتصار يتحدى فيه رأس السلطة فى الولايات المتحدة الممثل لليمين الشعبوى.
يأتى هذا المشهد، بعد سنوات، من طرح مفهوم «نهاية الأيديولوجيا» الذى أعيد طرحه فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى مصاحبا لأطروحة نهاية التاريخ التى طرحها فوكوياما بعد سقوط المعسكر الاشتراكى، فنهاية الأيديولوجيا هنا ليست تلك المتعلقة بتطور المجتمعات التى طرحها سيمور ليبست ودانيال بل، واللذان طرحاها فى الخمسينيات كمرحلة متقدمة من النمو الصناعى، حيث تصبح البنية الاجتماعية ــــ الاقتصادية لأى دولة ناتجة عن مستوى تطورها، لا عن تبنّيها لأيديولوجيا سياسية معيّنة. إنما طرحت كانتصار لأيديولوجية على أخرى.
فكان من الطبيعى أن يتحول الموضوع إلى ترويج للخطاب الرأسمالى بشكل دوجمائى وكأن الليبرالية هى الحقيقة والرأسمالية هى العلم، مع تحجيم اتهام أى نقد بأنه أيديولوجى فى زمن انتهت فيه الأيديولوجيات، وتصوير الاقتصاد كحقل محايد علميا يخص الخبراء دون المواطنين، كما طرح كومو نفسه فى انتخابات عمدة نيويورك، بينما فى الواقع هو قرار سياسى يعكس شبكة مصالح اقتصادية وسياسية محلية ودولية. حتى بتنا نرى فى منطقتنا كُتابًا ينتمون للتيار اليسارى أو القومى يطرحون رؤى ويتبنون مواقف يمينية باعتبارها الحق والممكن.
• • •
أدى ما سبق إلى مزيد من التوحش الليبرالى كما يوصفه المفكر الاقتصادى المصرى «رمزى زكى» وتسيطر النيوليبرالية التى تتجاوز الرأسمالية لتقدم نموذج يهمش كل الجوانب الاجتماعية لصالح السوق باعتباره قادرا على كل شىء بداية من مفهوم الفائض الذى يتساقط على الفئات المهمشة وصولا لتصحيح السوق لذاته، وهو ما لم يحدث تاريخيا، بل على العكس همش مزيدًا من الفئات وزادت نسبة الفقر فى العالم وزادت الاحتكارات وتركز الثروات، كما يثبت توماس بيكتى فى دراساته حول رأسمالية القرن الحادى والعشرين.
كردة فعل دفاعى تراجعت كل التيارات المناهضة للرأسمالية وحصرت نفسها فكريا وتكتيكيا فى المجال الحقوقى والإنسانى، مما أفسح المجال للصعود اليمينى سواء كان قوميًا أو دينيًا على حساب الأفكار التقدمية التى بدأ الهجوم عليها باعتبارها مثاليات غير واقعية وصولا لتشويهها باعتبارها مخالفة لقيم المجتمعات، متغافلين أن هذه القيم هى قيم المجتمعات اليمينية سواء وطنية أو دينية. بينما توجهت أحزاب اليسار، خاصة فى أوروبا، إلى حالة تمييع للسياسات التى يطرحها وحتى التى يطبقها حين وصوله للحكم، تحت شعار الطريق الثالث الذى طرح نظريته المفكر البريطانى أنتونى جيدنز. وهنا فقد المواطن البوصلة وأصبح متأرجحا بين تيارين قريبين من بعضهم البعض بل يخدمون نفس شبكات المصالح، فظهرت فكرة الكفر بالنخب ومحاولات الخروج عنها.
• • •
هذه الحالة قادتنا لما يطلق عليه سياسات الهوية إذ أصبحت هى محل التنازع، وسياسات الهوية هى نمط من الفعل السياسى يربط المطالب والحقوق بالانتماءات الثقافية أو الجندرية أو العرقية، بدل ربطها بالبنية الطبقية أو الاقتصادية أو المصالح. حيث ظهرت بدايةً كحركات تحرّر ضرورية فى السياق سابق ذكره، فأتاحت الاعتراف بفئات مهمَّشة كانت خارجة عن الخطاب السياسى السائد. لكنها تحوّلت تدريجيًا ــــ خصوصًا مع صعود النيوليبرالية ـــــ إلى سياسة تركز على التمثيل والاعتراف الرمزى أكثر من التغيير المادى، فأصبح الصراع يدور حول «من يتكلم باسم من؟» بدل «من يملك السلطة والثروة؟».
ولأن لكل فعل رد فعل، فمع المزيد من صعود اليمين وسياسات الهوية، خرجت من قلب الجانب الآخر، سواء كان يساريًا رسميًا كما فى حزب العمال البريطانى أو الحزب الاشتراكى الفرنسى أو الأحزاب الليبرالية مثل الديمقراطى فى أمريكا، أصوات مناهضة لليمين أكثر راديكالية. ففى أوروبا، ظهر نموذج يسارى راديكالى مع جان لوك ميلونشون فى فرنسا عبر تحالف فرنسا الأبية، الذى أعاد ربط السياسة بقضايا الضرائب التصاعدية والعدالة البيئية وحقوق العمال. وفى بريطانيا، خسر جيريمى كوربن معركته داخل حزب العمال، لكن قاعدته الاجتماعية لم تختفِ، بل تحوّلت إلى مشروع سياسى بديل يتبلور خارج الحزب تحت مظلة مشروع حزب جديد فى محاولة لاستعادة يسار اجتماعى منسجم مع النقابات والحركات القاعدية. وفى الولايات المتحدة، لم يعد اليسار مجرد تيار فكرى، بل صار كتلة اجتماعية داخل الحزب الديمقراطى تمثلها أسماء مثل ألكساندريا أوكاسيو ــــ كورتيز وبيرنى ساندرز، مدعومة بحركات ميدانية مثل اتحاد الممرضات الوطنى وحملة لرفع الحد الأدنى للأجور، مما جعل اليسار الأمريكى يستمد شرعيته هذه المرة من الشارع العمالى والمهمّشين لا من النخبة الأكاديمية، وهو النموذج الذى يمثله بجدارة زهران ممدانى.
• • •
حتى على مستوى الدول النامية، ففى أمريكا اللاتينية، يتخذ هذا الصعود بُعدًا أكثر جذرية بوصفه استعادة لتاريخ انقطع بفعل الانقلابات والنيوليبرالية المتوحشة. فعودة لولا دا سيلفا إلى الحكم فى البرازيل عام 2022 لم تكن مجرد عودة زعيمٍ شعبى، بل عودة خطاب العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة والدفاع عن الأمازون باعتباره مسألة كوكبية. وفى كولومبيا، مثّل انتخاب غوستافو بيترو أول وصول لليسار إلى الرئاسة بدعم من حركات نسوية وبيئية وسكان أصليين، كاسرًا هيمنة اليمين العسكرى لعقود. هكذا يتشكل مشهد جديد، ليس مجرد لتيار يظهر أو يعود للساحة، بل يعود بوصفه مرتبط عضويا بحركة واسعة، متقاطعة، متجذرة فى صراعات اجتماعية.
ثم جاءت الإبادة فى غزة فى آخر عامين لترسم خط أخلاقى بين يمين عالمى يبرّر الجريمة (حتى بعض العرب صمت أو حوّل الموقف إلى إدانة للمقاومة)، وبين تيار يسارى وقف مدينا للإبادة ومتضامنًا مع المقاومة، حتى داخل دول تُعدّ فيها إسرائيل ملفًا محرّمًا أو غير قابل للنقاش. هنا لم تعد المسألة «هوية» أو «سجالًا لغويًا»، بل اصطفاف سياسى وفكرى حول سؤال العدالة والحرية والحق. وهكذا تحوّلت غزة إلى مرآة كاشفة للبعض، وناقوس إيقاظ لبعض آخر.
إذن فالقضية ليست «صعود اليمين الشعبوى» كما يختصرها كثيرون، أو تفسخ اليسار الحقوقى كما يطرح آخرون، بل عودة الصراع الفكرى نفسه بعد عقود من تسويق وهم «ما بعد السياسة». ما نراه اليوم هو «عودة للأيديولوجيا» بوصفها صراعا مشروعًا بين أفكار وتيارات حول توزيع القوة والثروة، فى مواجهة سياسات الهوية التى اكتفت بإعادة توزيع الرموز والاعترافات. العالم لا يتحرك نحو اتجاه محدد، بل نحو استقطاب يعبر عن المصالح، وينعكس فى رؤى، ويطرح سياسات أكثر ارتباطًا بحياة الناس تخرج من رؤى تكتفى بتغيير اللغة والرمز لمجموعات تريد تغيير البنية.
مدير منتدى البدائل للدراسات ببيروت