الطرف الوحيد الذى يقف عقبة أمام إبرام اتفاق يسمح بوقف إطلاق النار فى غزة، واستعادة إسرائيل لأسراها لدى المقاومة الفلسطينية، ويفتح الباب أمام تدفق المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطينى فى غزة، كخطوات تؤدى إلى التقدم نحو حل الدولتين، هو بنيامين نتنياهو. ناشده الرئيس الأمريكى، بايدن، أن يسهل إجراء المفاوضات التى استؤنفت فى القاهرة يوم الأحد حول الوضع فى غزة. كما أطلقت نداء مشابها لما قاله الرئيس الأمريكى حكومات بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وأمين عام الأمم المتحدة. ومع ذلك ودون استباق نتائج ما جرى بالقاهرة يوم أمس لا يتوقع كثر من المراقبين أن تفضى هذه المفاوضات إلى نتيجة تؤدى إلى وقف الحرب، وذلك بسبب تعنت رئيس الوزراء الإسرائيلى، وتضييقه سلطات وفده التفاوضى، ثم عودته دائما إلى أسلوبه الأثير وهو طرح شروط جديدة على ما قد يتم الاتفاق عليه.
ما هو سبب هذا العناد من جانب نتنياهو علما بأن القيادات العسكرية والأمنية فى إسرائيل تود الوصول إلى هدنة تسمح بتوقف القتال واستعادة الأسرى الإسرائيليين، وربما تمكنهم من التركيز على مواجهة حزب الله على حدود إسرائيل الشمالية؟ هل من الصحيح أن تعنت نتنياهو يعود إلى خشيته أن يفقد منصبه، وأن يُقدّم بعد ذلك للمحاكمة على ثلاث من تهم الفساد التى وجهت له؟
يطرح هذا المقال رؤية أخرى لا تتعارض مع هذا الرأى، ولكنها تضيف إليه حسابات أخرى خاصة بنتنياهو يعتقد وفقا لها أنه لا يخسر فى هذه الحرب الجارية، بل يمكن أن ينطلق منها إلى أهداف أوسع تعزز أمن إسرائيل على الصعيد الإقليمى، وأنه إذا ما سارت الأمور على نحو ما يتصور، سوف تنتهى هذه الجولة من الصراع، حتى وإن تخللتها حرب إقليمية، بتأكيد سيطرة إسرائيل على كل من الضفة الغربية وغزة وانتهاء اتفاق أوسلو، وهزيمة إيران وحلفائها، وربما إسراع بعض الحكومات العربية وخاصة فى الخليج، وفى مقدمتها السعودية، بالتطبيع الكامل لعلاقاتها مع إسرائيل. هذا النجاح الهائل سيجعل الرأى العام فى إسرائيل يغفر له فساده، ويتوّج من جديد «ملكا لإسرائيل» بالمعنى السياسى وليس بالمعنى الدستورى.
كيفية النفاذ إلى عقل نتنياهو
لقد سهل علينا نتنياهو نفسه هذه المهمة، ويسرها لنا أنصاره ممن يؤمنون بحكمته. سهل نتنياهو علينا هذه المهمة بالخطاب الذى ألقاه فى الكونجرس الأمريكى فى ٢٥ يوليو الماضى، وطرح فيه رؤيته لما يجرى من صراع فى الشرق الأوسط، كما سهل هذه المهمة واحد من أنصاره، الذى خرج على إجماع معظم خبراء الشرق الأوسط من الأمريكيين الذين كتبوا فى الصحافة الأمريكية المتخصصة وفى صحيفة نيويورك تايمز الشهيرة ينعون على نتنياهو أنه يعرض بعناده مستقبل إسرائيل للخطر، خرج نصير نتنياهو بمقال فى دورية الشئون الخارجية الأمريكية «فورين أفيرز» بمقال لافت للانتباه عنوانه «إسرائيل تكسب» Israel is winning، اعتمادا على هذين المصدرين يمكن أن نرسم تصور نتنياهو لما يقوم به.
لنبدأ بخطاب نتنياهو أمام الكونجرس الأمريكى. منذ الفقرة الأولى للخطاب، يضع نتنياهو ما يجرى فى غزة فى إطار أوسع يتجاوز الشرق الأوسط بل ويتجاوز اللحظة الراهنة، فالعالم فى رأيه يمر بمرحلة فوران، وهو فى مفترق طرق تاريخى، فما يسميه «محور الإرهاب» فى الشرق الأوسط يواجه الولايات المتحدة وإسرائيل ومن يسميهم أصدقاءه العرب، وهو لا يعتبر ذلك صداما بين الحضارات، ولكنه صدام بين «البربرية والحضارة»، وهو صدام بين من يمجدون الموت ومن يقدسون الحياة.
الاستنتاج الذى يصل إليه أنه حتى يتحقق النصر فإن على أمريكا وإسرائيل أن يقفا معا، لأنهما عندما يقفان معا فهما ينتصران وينهزم الآخرون. ثم يلح على هذا المعنى مرات عديدة فى خطابه، فما حدث فى السابع من أكتوبر فى إسرائيل هو مماثل لما جرى فى الولايات المتحدة فى ٧ ديسمبر ١٩٤١ عندما واجهت هجوم الطيران اليابانى فى بيرل هاربور، أو ما جرى فى الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١ عندما تعرض برجا مركز التجارة العالمى فى نيويورك ومبنى البنتاجون فى واشنطن للهجوم، وهو فى رأيه نفس الصراع بين قوى الخير وقوى الشر، ولذلك فعندما تقف إسرائيل فى مواجهة إيران فهى تدافع أيضا عن قيم الحضارة التى ترفعها الولايات المتحدة، ويستخلص من هذه المقولة أن إسرائيل عندما تسعى لمنع إيران من تطوير سلاح نووى، أسلحة قد تدمر إسرائيل وتهدد كل مدينة أمريكية، فما تقوم به إسرائيل ليس فقط لحماية الشعب الإسرائيلي، ولكنه لحماية الأمة الأمريكية كذلك.
ولذلك فما يجرى فى غزة هو فقط امتداد لمعركة إيران ضد الحضارة. وكأنه ليس هناك احتلال إسرائيلى للأراضى الفلسطينية، وكأنه لم يكن هناك حصار إسرائيلى للفلسطينيين والفلسطينيات فى غزة، وأنه لا يوجد مطلب فلسطينى بتحقيق المصير اعترفت به إسرائيل ضمنا بتوقيعها على إطار السلام فى ١٩٧٩، وإبرامها اتفاق أوسلو.
كل ما تواجهه إسرائيل فى رأيه هو من صنيعة إيران و«حلف الإرهاب» الذى تناصره، بل يمتد به الخيال ليزعم أن حركات الاحتجاج التى عمت الجامعات فى عواصم العالم المختلفة وفى الكثير من الجامعات الأمريكية هى من تمويل إيران.
ينتقل بعد ذلك ليؤكد أن إسرائيل فى حربها ضد حماس فى غزة تحقق النصر، وهو على مرأى النظر، وستكون هزيمة حماس على يد إسرائيل هزيمة لكل محور الإرهاب الذى تتزعمه إيران. فقد استعادت إسرائيل عندما كان يلقى خطابه ١٣٥ من أسراها، ومنهم سبعة جرت استعادتهم فى عملية عسكرية.
وقد فصل معلق مناصر لنتنياهو تفاصيل انتصار إسرائيل هذه فى مقال نشرته دورية فورين أفيرز الأمريكية، وجاء مخالفا لما ذهبت إليه مقالات كثيرة أخرى فى نفس الدورية بل وحتى فى تعليقات بعض كبار الكتاب فى صحيفتى نيويورك تايمز وواشنطن بوست، ففى هذا المقال الذى كتبه جون سبنسر، وهو ضابط أمريكى سابق من خبراء حروب المدن واختار عنوانا له: إسرائيل تفوز، ولكن النصر الدائم ضد حماس يتطلب تنصيب قيادة جديدة فى غزة. يضيف هذا المقال من علامات انتصار إسرائيل سيطرتها الكاملة على كل قطاع غزة بما فى ذلك حدودها الشمالية والجنوبية مع مصر، وإقامتها منطقة عازلة بين غزة والمستوطنات الإسرائيلية شمالها، ويقسم غزة من الشرق إلى الغرب ممر نتساريم الذى تسيطر عليه القوات الإسرائيلية، بل بدأ سكان بعض هذه المستوطنات العودة إلى مساكنهم بعد أن هدأت وتيرة الصواريخ التى كانت تطلقها الفصائل الفلسطينية من عدة آلاف إلى ما لا يتجاوز العشرات، كما فقدت حماس قدرتها على حكم غزة مباشرة.
لكن كما فصل فى ذلك نتنياهو نفسه فى خطابه أمام الكونجرس، المرحلة التالية للانتصار الإسرائيلى فى غزة هى إيجاد قيادة بديلة لحماس تحكم القطاع، وإعادة «تنشئة» الفلسطينيين والفلسطينيات بحيث يكنون مشاعر الود تجاه إسرائيل، ولكن بعبارة سبنسر التوفيق reconciliation بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى.
ما هى الدلالات العملية لرؤية نتانياهو وأنصاره؟
أيا كان رأينا فيما يقوله نتانياهو وأنصاره، إلا أن ما يقوله ويرددوه هو كاشف عن نواياه الحقيقية والتى تعكسها مواقفه مع الفلسطينيين ومع من يناصرونهم فى إيران ولبنان. ليس فى نية نتنياهو التخلى عن السيطرة على غزة مهما كانت آراء الإدارة الأمريكية، وليس فى نيته حصر الصراع مع حماس فى غزة على حدود غزة وإنما هو يود نقل هذا الصراع على مسرح الشرق الأوسط كله بالتصدى فى النهاية للمشروع النووى الإيرانى حتى ولو كان هذا المشروع لا يصل إلى القدرة على تطوير سلاح نووى. لذلك سوف يماطل فى المفاوضات الجارية مع حماس بوساطة أمريكية وتواجد مصرى وقطرى، وسوف ينتهز فرصة رد حزب الله وإيران لكى يصعد الموقف معهما استفزازا لإيران لتدخل فى حرب مع إسرائيل تضطر الولايات المتحدة للانخراط فيها بدعوى أنها تدافع عن أمن إسرائيل.
يستند نتنياهو فى ذلك إلى أغلبية مؤكدة فى الكنيست الإسرائيلى، وإلى ازدياد التأييد له وسط الرأى العام فى إسرائيل الذى لا يقبل إلا بالهزيمة الكاملة لحماس، كما أن القيادات العسكرية والأمنية فى إسرائيل لا تقدر على تحدى ما تسميه بالمستوى السياسى أى القيادة المدنية المنتخبة التى هى وحدها صاحبة القرار النهائى فيما يتعلق بالحرب أو السلام، وإلى أن الإدارة الأمريكية فى سنة الانتخابات لن تقدر إلا على مسايرة قرارات إسرائيل، وأن الحكومات العربية لن تتجاوز مطالبة المجتمع الدولى بوقف عدوان إسرائيل، وبعضها لا يتمنى انتصارا سياسيا لحماس.
خطأ نتنياهو، أنه مثل إدارات أمريكية، لا يقيم وزنا فى حساباته لقدرة الشعوب على المقاومة.