أتيحت لى فرصة استدراج الآراء حول التوصيف المناسب لمواقف عديد الأطراف من المشروع الذى أقسم نتنياهو وحكومته وبعض حلفائه على تنفيذه فى الشرق الأوسط وجارٍ بالفعل تنفيذه بتكلفة مادية وبشرية باهظة. تجمعت عندى أوصاف كثيرة لهذه المواقف بعضها غير لائق تكراره وبعض آخر يعكس حيرة وارتباكا وبعض ثالث راضٍ ومؤيد مع تحفظ وبعض رابع راضٍ ومؤيد بدون قيد أو شرط.
• • •
توقفت طويلا عند رأى أطلقه أو تناقله أو تمسك به كثيرون بعضهم من العاقلين والنجباء المخلصين وطنيا وقوميا، خلاصته موجزة ولكن موحية وتقع فى ثلاث كلمات هى «حالة غياب عربى». تشاورت مع عدد من أصحاب هذا الرأى. استبعدنا سوء النية والتواطؤ والمبالغة وتفهمنا دعاوى وأحيانا مزاعم الضغوط الخارجية والداخلية وقبلنا مرغمين حجج ضعف الإمكانات المخصصة للسياسة الخارجية ومنها الاستعدادات الدفاعية والأمنية. كانت تجربة فى الحوار والمشاورات مثمرة خلاصتها فى النقاط التالية:
أولا: ساعدتنا التجربة ونوعية المشاركين وتاريخهم فى وضع حدود واضحة وتعريفات صريحة لمفاهيم من نوع التواطؤ والتبعية والاختراق من الخارج والشكوك المتبادلة بين أطراف عربية والعداء للسامية أو عداء السامية المتبادل فى الشرق الأوسط والجوانب الغامضة فى العلاقات الإيرانية الأمريكية، ومفاهيم أخرى تثير الجدل حول كثير من الأفكار والآراء المطروحة حاليا فى ساحات صنع السياسة والقرار وساحات الرأى فى الشرق الأوسط.
• • •
ثانيا: كان وما يزال مفيدا الإقرار بداية بأن موقف كل من روسيا والصين من عمليات تعميق الاحتلال الصهيونى لفلسطين ومن سياسات توسيع هذا الاحتلال يستحق الصفة التى ترددت معه وهى أنه يعكس «حالة غياب» غير مفهومة من جانب حكومتى الصين وروسيا. كثيرون انتظروا من الصين وروسيا موقفا من اعتداءات إسرائيل أقل حذرا وترددا وهما القطبان الدوليان الأهم مع أو بعد الولايات المتحدة، القطب الدولى المتواطئ صراحة وفعلا مع إسرائيل.
• • •
ثالثا: ليس كل العرب، ولا أغلب العرب، ولا حتى نسبة يعتد بها من العرب يستحقون صفة الغياب التى أطلقها أصحاب رأى واسع فى العالم العربى وخارجه. نحن فى الشارع وفى أعمالنا غاضبون وأهلنا فى الشارع وفى أعمالهم غاضبون. نحن وأهلونا مثل كثيرين فى الشوارع العربية منفعلون وإن كنا غير فاعلين بنفس قدر الانفعال. ننتظر من حكوماتنا حضورا وهى، أو بعضها على الأقل، تتمنى لو استطاعت أن تتفلت من ضغوط خارجية بعضها معروف وأكثرها خافٍ تماما أو مستتر، تتمنى لو حضرت ولو فى أدوار أخرى وتحت أسماء شتى. تتمنى لو هب إعصار أطاح بهذه الدولة التى تجاوزت فى الشرور كل الحدود، حتى حدود الأسطورة التى تتغنى بها وتتباهى فى مدارسها وصلواتها.
• • •
رابعا: الشعب الفلسطينى حاضر بشجاعة وبقوة وبتضحيات هائلة. السلطة الفلسطينية غائبة مثل بعض حكومات دول عربية أخرى. هنا مثلا عندما سئلنا وجدنا صعوبة فى تبرير غياب السلطة التى تدعى أنها «سلطة مقاومة» وغياب قوات أمنها عن حماية مكتب قناة الجزيرة من الغزو العسكرى الصهيونى وحماية أبناء وبنات المخيمات فى أنحاء الضفة. ولو حدث مثل هذا فى عاصمة دولة عربية أخرى لكانت لدينا صفة أخرى تنفع فى وصف موقفها.
• • •
خامسا: خلصنا ضمن خلاصات أخرى إلى أن النظام العربى ممثلا فى مؤسسته القومية، أقصد العربية، فشل على امتداد سبعين سنة أو أكثر فشلا ذريعا فى صنع أو حتى فى وضع أساس يصلح لصنع منظومة أمن جماعى أو، حتى قطاعى أو جهوى، عربى. فشل فشلا أفظع حين رفض وضع قواعد وقيم أخلاقية، ووطنية ولا أقول قومية، تؤهلنا لاحترام أسبقية أبناء الوطن على اختلاف مذاهبهم على أجانب من خارج الوطن هددوا بالتخريب والإرهاب صروح هذا الوطن. هذه الثغرة هى التى أثارت اتهامات التواطؤ أو العمالة أو خيانة الوطن فى مواقع عربية بعينها، وهى الثغرة التى نفذ منها عدد محدود من مذيعات ومذيعين فى قنوات تنطق بالعربية، راحوا ينشرون الوقيعة بين أبناء الوطن الواحد ويسترخصون موت مدنيين أبرياء هم من أشرف وأطهر بنات وبنين هذا الوطن. هذا هو الغريب الأخطر وليس الغياب العربى وبعض أسبابه القاهرة يمكن تفهمها.
• • •
سادسا: حصل إجماع فى الرأى بأن فلسطين، اسما وعنوانا ومقاومة وكيانا وشعبا، لم تحصل يوما منذ نكبتها الأولى على مثل ما تشهده اليوم من تعاطف وانبهار واعتراف على امتداد ساحات أممية شاسعة. لم يدخل حوارنا فى جدل غير لائق ولا مناسب ولا أخلاقى تحت عنوان إن كان كل هذا يستحق أو لا يستحق الدماء التى سالت على طريق تخليص وطن عربى سليب من براثن استيطان متوحش تدعمه الدولة الأعظم والأقوى فى تاريخ العالم، وكلاهما تحركهما قوى نظام عالمى تحت النشأة تقوده إمبراطورية «سامية» مهيمنة على عديد مفاتيح الهيمنة فى عالم الغد. أقصد تحديدا المنظومة الصهيونية العالمية. أتحدث هنا عن مشروع تتسع آفاقه لمجالات خيال بلا حصر ولا حدود وتقف أسسه وقواعد عمله على قاعدة ثابتة المعالم من واقع نراه ونلمسه فى دول أوروبية بعينها وفى مواقع القرار الاستراتيجى فى الولايات المتحدة.
سابعا: سقط قطر عربى بعد الآخر فى غياهب الفوضى والحرب الأهلية أو ينتهى أمره مصالح تتقاذفها ميليشيات مسلحة تتلفح بالدين أو بصراعات السلطة أو بمكافحة بعضها البعض الآخر أو بعصبيات طائفية أو بصريح العبارة سقطت بأفعال أو لأخطاء أمريكية. كان ضروريا أن يحدث هذا السقوط المتتالى لتتمكن إسرائيل من تنفيذ وتبرير مشروعات توسعها تستكمله باتفاقات تطبيع تعقد تحت الضغط الخفى غالبا والمعلن أحيانا مع أقطار عربية لم تصبها بعد يد الفوضى وعدم الاستقرار، وكأن الأمر أو القرار العربى صار مخيرا بين مستقبل سيئ ومستقبل أسوأ.
• • •
على العكس، رأينا فى حوارنا مستقبلا أفضل. الآمال كبار فى أن التطور الجارى فى النظام الدولى يمنحنا كأقطار عربية منفردة أو مجتمعة فرصا عديدة لتغيير تحالفاتنا الخارجية. نرى عالم الجنوب ينهض ويدعونا للنهوض معه. نهضنا من قبل ونحن فيه ونجحنا قبل أن نقرر فرادى أو جماعات أن نغيب.
الآمال كبار أن نعود لنقتحم، جماعة أو فرادى، مع المقتحمين علوم وفنون الصعود والمناعة وأن نستعيد للذاكرة العربية أفكار وخطط التكامل الإقليمى، أو القومى إن شئتم. شعوبنا بعد هذه التجربة الأخيرة مع الدرس الأعنف على يد إسرائيل وحليفها جاهزة أكثر من أى وقت مضى للانطلاق نحو نهضة جديدة واستقلال جديد. انطلاقة لا بد أن تبدأ باستعادة وحدة أقطار عربية انفرطت بفعل فاعل ووضع قواعد عمل جديدة، أو تحديث وتعزيز قواعد قائمة لعمل عربى مشترك، وتحديث الوعى العربى فى تعاطيه مع قوى إقليمية صاعدة فى منطقة الشرق الأوسط. لم نعد الطرف الوحيد الفاعل فى المنطقة وبالتأكيد لسنا الطرف الأقل أهمية وفاعلية حتى بعد ما فعلته بنا العدوانية الصهيونية.
• • •
بالأمس قال نتنياهو إنه جاهز لصنع شرق أوسط جديد. هل تدارسنا فيما بيننا الأمر، أم نحن عن مثل هذه الأمور المصيرية ننشغل بأمور أقل أهمية؟. هل يستحق الأمر العرض على مجلس للجامعة العربية على مستوى القمة؟. هل يستحق أن نتشاور فى شأنه مع أعضاء مجموعة البريكس التى تعتبر مستقبل الشرق الأوسط يقع ضمن خياراتها؟