صديقى العزيز، أهلى ظلمونى وأخشى أن يتهمنى أولادى ذات يوم بأننى ظلمتهم. أفعل بأولادى ما فعله أهلى بى. نشأت فى عائلة يمجد الكبار فيها صغارهم. ما أكثر ما قيلت لى كل صباح، أنت الأذكى، أنت الأقوى، أنت الأعلى مرتبة ومكانة. أمى التى لم تتخلف يوما عن إعداد وتنفيذ مراسم إفطار الصباح كانت تلقننى بنفسها هذا النشيد لتتأكد من أننى حفظته. ينتهى دورها عند باب المنزل، حيث تنتظرنى ومعها حقيبتى المدرسية المربية المكلفة بتوصيلى حتى باب المدرسة. هذه بدورها لا يفوتها على الطريق تذكيرى بأننى درست على يدها الليلة الفائتة ما لم تدرسه بالإتقان الواجب تلميذة أخرى فى الفصل. كانت توصيتها الأخيرة التى تلقى بها بصرامة وهى تودعنى على باب المدرسة ألا أسمح لنفسى أو لأحد خلال اليوم المدرسى بأن يشوه هيئتى أو يخدش نظافة هندامى أو يجرح مشاعرى. يجب أن أحافظ على هيبتى وأحترم ذاتى إلى أقصى حد ممكن.
***
صديقتى العزيزة، أما أنا فنشأت فى بيئة أقل صرامة. لم يحدث فى أى مرحلة من مراحل النشأة أن تجاوز أهلى فى التربية حدود البساطة إلى التعقيد أو التفخيم. لم أحظ بأى استثناء فى المعاملة أو الأنصبة باعتبار ذكوريتى كالحال فى بيوت أخوالى. كنا نتلقى قواعد الأخلاق ومبادئ الحياة بالأسلوب نفسه الذى كانت تتلى علينا حواديت ألف ليلة وليلة والحكايات التى يسمعها الأطفال فى بلاد أخرى. مررنا بسنوات المراهقة ودخلنا عالم الرشادة مزودين بقواعد كانت قد رسخت. لا تركيز على الذات. أنا لست استثناء فى أى شيء. أنا واحد من كثيرين لا أختلف عنهم إلا فى تفاصيل قليلة. أنا إنسان أتعامل مع الأشياء بمنطق النجاح تارة والفشل تارة أخرى. تعلمت أن أحب نفسى ولا أعبدها. تعلمت أيضا أن أتعامل مع ذاتى بلطف ونعومة. لا أعنفها ولا أقسو عليها. بالعكس أحنو عليها وأدللها إن احتاجت. أنا والذات متوافقان ومتكاملان.
***
صديقى، نحن مختلفان، أقصد أنا وأنت. أنا أقدس الذات وأنت تتعايش معها. سمعتك كثيرا تعترف بارتكاب خطأ أو آخر. أفهم أنك تفعل هذا لأنك غير مهتم بسمعتك بين الناس وبهيبة ذاتك ومكانتك فى المجتمع. لا أعنى أنك لا تبالى ولكنى أعرف أن ذاتك لا تحظى بالدرجة نفسها من التركيز الذى تحظى به ذاتى. أعلم علم اليقين أو ما يقاربه أن النجاح ينتظرنى فى محطة قريبة من رحلة حياتى بينما نجاحك فى أحسن أحواله مرهون بظروف أقوى منك وفى معظم أحواله مشكوك تحققه. قامت تنشئتى على أسس أهمها تأمين محطات حياتى قبل أن أصل إليها. كثيرون من الذين اختاروا تدليل الذات وملاطفتها انتهوا عند حد اللا مبالاة. اللا مبالات، كما تعلم يا صديقى، هى نقيض حب الذات، نقيض الحب فى كل صوره وتنويعاته. هى الفشل أليس كذلك. إذًا أنت لم تتميز عن الآخرين ولم تعلن على الملأ استثنائيتك فقد تجد نفسك مدفوعا نحو عدم الاكتراث بمصير ذاتك وتنتهى غريقا فى مستنقع اللا مبالاة.
***
صديقتى، نحن فعلا مختلفان. أسألك وأتوقع إجابة غير شافية. أسألك كم من المرات قضيت ليلك حتى الفجر تتقلبين فى الفراش لأنك ارتكبت خطأ فى يوم فشلت فى تفاديه وفى تصحيحه. قضيت الليل تتساءلين كيف تتعاملين مع «الذات» التى تنزف مهانة من جرح الإهانة. تذكرين ولا شك أن وجدت نفسك تجترين أخطاء مماثلة رفضت الذات المجروحة التسامح فيها أو التغافل عنها. تعددت الأخطاء وتراكمت فهى لا تغادر. ليلة بعد ليلة لا يغمض لك جفن. التوتر العصبى يضيق عليك الخناق والمخ يتعب. تسربت إلى قسمات هذا الوجه البديع الخلق تجاعيد اكتئاب. ضاقت بك السبل فاتهمت متآمرين بينهم أطباء يعالجونك وزملاء يشاركونك عملا كان واعدا. عدت إلى ذاتك تبحثين عن أمل فيها لتجدينها صامدة وعنيدة كعهدك بها. نحن قوم لا نخطئ هكذا كنتما ترددان. تدهورت حالتك قبل أن تتحسن قليلا على أيدى طبيب أو آخر. تقابلنا وتواعدنا وتحاورنا وما زلت يا صديقتى أسيرة هذه الذات المهيمنة تطحنك وتسد أذنيك بصليل دورانها.
***
صديقى، أحبك ولكنى لا أفهمك. كيف تقاوم الرغبة فى أن تحاكم من قصر ومن أخطأ. أعرف أن فى جعبتك مبادئ وقيم جمعتها من بلاد فى الغرب وقبائل فى الجنوب والشرق تستطيع أن تحكم بها على سلوك الناس وتصرفاتهم، ولكنك نادرا ما تفعل. أنا على النقيض أحاكم. أحاكم على نقائص حتى الموروثة وأحاكم على تقصير حتى تحت القهر. أنا أستند إلى مكانتى ومكوناتى الاستثنائية وثقتى فى أننى من تقاليد لا تترك مجالا للخطأ. أنت مطمئن إلى أن لطفك مع ذاتك ونعومة تعاملك معها يضمنان لك الرضاء الداخلى. تستطيع ببساطة أن تعترف بالوقوع فى خطأ وتعتذر عنه أما أنا فلا أستطيع فوجودى قائم على تقديس الذات، ذات لا تخطئ ولا تعتذر. أنت محق فى أننى أدفع ثمنا غاليا لتمسكى بهيبة الذات وأسبقيتها، الثمن أدفعه اضطرابات عصبية وانهيارات نفسية، ومع ذلك لا أرضى له بديلا.
***
صديقتى، أخاف عليك. تعالى نسترشد بآراء الأصدقاء.
***
صديقى، وأنا أخاف عليك. نعم تعالَ نسترشد بآراء الأصدقاء.