نشر موقع درج مقالا للكاتب رغيد عوده، يتناول فيه الصراع الوجودى والأخلاقى المتصاعد بين التقدم الهائل فى تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى لتوليد الفيديوهات (مثل أداة Sora 2) وقطاع الإبداع البشرى (خاصة القطاع الفنى)، كما يسلط الكاتب الضوء على المخاطر الجسيمة المتمثلة فى التعدى على حقوق الملكية الفكرية، وانتشار فيديوهات التزييف العميق، وتهديد الوظائف، لذا يدعو عوده إلى ضرورة التحرك عالميًا لتنظيم هذه التقنيات لحماية جوهر الإبداع والوجود الإنسانى.. نعرض من المقال ما يلى:
«متحمسٌ لإطلاق sora 2! لقد قطعت نماذج الفيديو شوطًا طويلًا؛ وهذا إنجازٌ بحثى هائل»، كتب سام ألتمان الرئيس التنفيذى لشركة أوبن إيه آى على منصة إكس للتواصل الاجتماعى فى 30 سبتمبر الماضى. لكن هذه الحماسة لم يشاركها مجتمع هوليوود، حيث أثارت أدوات الذكاء الاصطناعى الحديثة ردود فعلٍ سلبيةً سريعة غير متفائلة بمستقبل السينما البشرية.
تتيح أداة Sora 2 الجديدة من OpenAI للمستخدمين تحميل مقاطع فيديو لأشخاص حقيقيين مع مؤثرات صوتية وحوار، ووضعها فى بيئات مُولّدة بواسطة الذكاء الاصطناعى، ما أثار ردود فعل غاضبة فورية من استوديوهات هوليوود ووكالات المواهب.
من مشاهد أفلام الرعب والأكشن، إلى الرومانسية والحب، تتيح نماذج الذكاء الاصطناعى المتوافرة اليوم استنساخ شخصيات حقيقية من دون أى اعتبار لحقوق الطبع والنشر، أو أخذ الترخيص لاستخدام صور أى ممثل أو للإنسان عادى.
أصبح بمتناول يد مستخدمى مواقع التواصل الاجتماعى استخدام أداة sora 2 لإنتاج مقاطع فيديو تلبى توقعات تأتى على مخيلتهم. فمنذ إطلاقها، غزت مواقع التواصل فيديوهات مضحكة ومقالب إلى جانب ألعاب فيديو وفيديوهات تحتوى على أحداث تثير شهية العقل البشري، مثل اقتحام ثور باب منزل وقط منزلى يدافع عن طفل بشكل غرائزى. فيما اشتهرت مقاطع فيديو تحاكى نقلاً مباشرا على تلفزيون، تصوّر الشمبانزى يقود دراجة نارية وتلاحقه سيارات الشرطة، بنيما اعتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعى أنها حقيقية.
كما بُث فيديو آخر لمذيعة فى قناة الجزيرة يصيبها الهلع أثناء البث المباشر بعد اقتحام جرذان استوديو التصوير، لكن ذلك استدعى نفيا من القناة بعدما انتشر الفيديو بشكل واسع، وقد ساهمت وسائل إعلامية فى نشره من دون التحقق من صحّته.
عاصمة السينما.. هوليوود تصارع البقاء
قد يكون نموذج sora 2 من شركة openAI الرصاصة الأخيرة فى صميم الإبداع الفنى للسينما البشرية، إذ يستطيع استنساخ أى شخصية حقيقية على شكل نسخة رقمية من دون أخذ الموافقة، واستخدامها فى توليد فيلم بحسب طلب المستخدم ووفق سيناريو التمثيل الذى يرغب فيه، من دون الحاجة إلى توظيف فريق ممثلين، فيما يحتاج إلى كاتب سيناريو فقط لتعبئة طلب توليد الفيلم.
الرد أتى سريعاً بإعلان كبرى وكالات المواهب ونقابات الفنون، مثل WME وCAA، رفضها القاطع لهذه الممارسة، واصفةً إيّاها بـ«القرصنة البشرية». كما وجّه عمالقة الاستوديوهات، وعلى رأسها ديزنى ووارنر براذرز، اتهاماتٍ لشركات التكنولوجيا بخرق القانون تحت شعار «الابتكار».
فى هذا السياق، ردّت OpenAI بأنها «تعمل على نظام تعويضٍ عادل» خاص بصور المشاهير، لكنها فى الوقت نفسه اعتمدت سياسة الانسحاب التدريجى من نقاش حقوق النشر. فأهداف شركات وادى السيليكون فى الولايات المتحدة الأمريكية تضع الذكاء الاصطناعى هدفا رئيسيا للمستقبل من أجل التربح واستبدال الموظفين بنماذج رقمية، واضعةً المصلحة الربحية على حساب الحقوق.
يكمن جوهر النزاع فى من يتحكم بالصور والشخصيات المحمية بحقوق الطبع والنشر للممثلين والشخصيات المرخصة– ومقدار التعويض الذى يجب أن يحصلوا عليه مقابل استخدامها فى نماذج الذكاء الاصطناعى.
يتمتع الكثير من مواقع التواصل الاجتماعى بسياسة خصوصية تنصّ على «أنه ما لم تُبدِ رفضك صراحة، فإن وجهك ومعلوماتك ستكون متاحة للاستخدام فى برامج تدريب الذكاء الاصطناعى».
جوهر الصراع هذا بين عاصمة الإبداع فى الأفلام السينمائية وعمالقة شركات الذكاء الاصطناعى لتوليد الصور والفيديوهات، يكمن فى القدرة على البقاء بوجه خصم يستطيع استبدال الإنسانية وطبيعة البشر الإبداعية باستنساخها عبر نماذج مولَّدة بالذكاء الاصطناعى.
التزييف العميق يزداد فى ظل تطوّر توليد الفيديوهات
يأتى تطور توليد الفيديوهات وسهولة صناعة محتوى فيديو بالتزامن مع تصاعد حالات التزييف العميق بأرقام مرعبة بحسب دراسة ديب سترايك Deeb strike، إذ ارتفع عدد حالات التزييف العميق التى رُصدت من 500 ألف فى عام 2023 إلى 8 ملايين خلال 2025. بينما تكشف الدراسة أن حوالى ربع المشاهدين فقط يكتشفون أن المحتوى مصنوع بالتزييف العميق.
التزييف العميق هو حالة أكثر تطورًا من المعلومات المضلّلة، التى يمكن أن ينشرها روبوت المحادثة بالذكاء الاصطناعى أو مجموعة أفراد تقصد القيام بحملة تضليل، فمصطلح التزييف العميق يُطلَق على مقاطع فيديو يُنتِجها الذكاء الاصطناعى لأشخاصٍ يظهرون وهم يقولون كلامًا لم يقولوه، أو يقومون بتصرّفاتٍ لم يفعلوها.
منذ سنوات، يحذّر مدققو المعلومات والباحثون فى الأخبار المضلّلة من خطورة التزييف العميق، الذى قد يكون على شكل فيديو لرئيس دولة يسبب الذعر أو عنف اجتماعى أو تأثير على انتخابات، إذ رُصد استخدام التزييف العميق فى أحداث سياسية مختلفة حول العالم بهدف خلق حالة إرباك أو لتغيير فى مجريات الأحداث بالتضليل.
استخدام التزييف العميق بشكل يومى أصبح أكثر سهولة مع توافر فرصة الوصول إلى برامج ذكاء اصطناعى تولد صورا ومقاطع فيديو، كما أن بيانات كبرى شركات مواقع التواصل الاجتماعى والذكاء الاصطناعى قابلة للقرصنة، ولاستخدامها فى «دارك ويب» الذى يتيح استخدام برامج متخصصة بإنشاء التزييف العميق.
كذلك، أتاح التزييف العميق توليد مقاطع حميمية وإباحية بهدف الابتزاز أو التسبّب بضرر، ما جعله أزمة حالية تؤثر على المجتمعات المدرسية فى جميع أنحاء العالم بحسب دراسة منظمة esafety الحكومية الأسترالية. إذ يمكن استغلال هذه الأداة لإنتاج فيديوهات فاضحة مصطنعة من دون موافقة، بما فى ذلك صور الأطفال.
وغالبًا، يعانى المستهدفون من تداعيات عاطفية شديدة: إذلال، خوف، غضب، ارتباك. ويخشى بعضهم التحدث خوفًا من ألا يُصدَّق أو يُلام على ما حدث. كما يشعرون بالخجل، على رغم أنهم لم يرتكبوا أى خطأ.
الصراع الحقيقى فى جوهر الوجود الإنسانى
الذكاء الاصطناعى لا يؤدى فقط إلى تشويش أفكار المستخدمين وعقولهم نتيجة للمعلومات المضللة، وإنما يخلق لديهم شعورا بالقلق النفسى وبناء توقعات غير واقعية تسبّب لهم الإحباط لاحقا. والصراع الحقيقى اليوم لا يدور حول الحقوق أو الأرباح، بل يتجذّر فى جوهر الفن ذاته –فى القيم والمعانى التى يحملها– وفى جوهر الوجود الإنسانى داخل الإبداع، بما يكتنفه من عواطف ومشاعر لا يمكن اختزالها أو قياسها بأى رموزٍ أو مقاييس مادية.
أما الذكاء الاصطناعى فهو الطرف الرابح، نظرا إلى أننا قدمنا له كل ما يحتاج من بيانات شخصية وصور، التطوير والتمويل، حتى بدا بالشكل الذى يفوق ما تم تصوّره للمستقبل خلال العقد الماضى، مشكّلاً خطرا على مئات آلاف الوظائف التى تشكل بداية مسار لخريجى الجامعات، ومهدّدا بالاستيلاء على أسواق صناعية وإبداعية فى الفن، مع توقعات بالتسبّب فى ركود اقتصادى فى نهاية فترة ازدهار الذكاء الاصطناعى.
اليوم نحن أمام معضلة عالمية، فقد وُلد نظام جديد عالمى يحتاج إلى تنظيم قوانين تراعى حقوق البشر والعمال، وتنسيق شروط استخدام الذكاء الاصطناعى، مع أخذ بالاعتبار أطماع الشركات الكبرى التكنولوجية. سنخسر المعركة الإنسانية لو لم نتحرك عالميا كما ينبغى، مع غياب التحركات ذى التأثير الحقيقى بسبب أولويات التقدم فى تطوير الذكاء الاصطناعى وتشغيله.
علما أن أحد القوانين الموجودة اليوم والتى تُعتبر بارقة أمل، هو قانون الذكاء الاصطناعى الصادر عن الاتحاد الأوروبى، والذى دخل حيّز التنفيذ التدريجى فى 1 أغسطس 2024. يُرسى القانون نهجًا قائمًا على المخاطر، ويحظر أنظمة ذكاء اصطناعى ذات المخاطر المرفوضة اجتماعيًا، ويفرض قواعد صارمة على تطبيقات الذكاء الاصطناعى عالية المخاطر. لكن هذا القانون غير كاف لأنه ترك معظم أنظمة الذكاء الاصطناعى الأخرى من دون تنظيم إلى حد كبير.
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/yvwwktnv