الصمت تواطؤ ربما! - خولة مطر - بوابة الشروق
الإثنين 27 أكتوبر 2025 1:47 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

الصمت تواطؤ ربما!

نشر فى : الأحد 26 أكتوبر 2025 - 7:10 م | آخر تحديث : الأحد 26 أكتوبر 2025 - 7:10 م

يقول جبران خليل جبران: «ويلٌ لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين».. ويكمل حتى «ويلٌ لأمة سائسها ثعلب، وفيلسوفها مشعوذ، وفنها فن الترقيع والتقليد…»، ويلٌ لتلك الأمة، بل ويلٌ لنا.

• • •

فيما يبحث البعض عن بصيص أمل فى كومة الدمار، يصطدم بحجم الانشغال بكثير من الزركشة المصطنعة حولنا. هناك بالطبع مساحة، بل مساحات للفرح وسط الدمار، وهناك من ينقش الأمل فى ذاك الممر الطويل المظلم. فى اللحظة نفسها تتصادم الصور القادمة من مدن عربية قريبة جدًا من الوجع الدائم؛ صور مخالفة للمشهد العام: بريق، أضواء، ضحكات صاخبة وموسيقى أكثر صخبًا، وربما أكثر قبحًا.

• • •

يقول ذاك الواقف عند حافة ما بين بين، أو الباحث عن أعذار: «كل المهرجانات والاحتفاليات فى العالم متشابهة، وهى فى مجملها صاخبة»، فيأتيه الرد من لقطات لمهرجانات اتسمت بكثير من البساطة والتركيز على مضامين ما سيُقدَّم من فن، لا على المظهر.

• • •

ومن زاويتها فى آخر الطاولة، تستفيق الصديقة الباحثة من صمتها لتقول له: إن الفن لم يكن يومًا محايدًا، بل كان منذ أن خطّ الإنسان الأول صور خوفه وأحلامه وواقعه على جدران الكهوف، فعلًا إنسانيًا، وربما شهادة على الوجود وعلى الواقع ضد النسيان. يحتدم النقاش، وتتحرك أدوات البحث السريعة لتذكير المتحدث، أو لإثراء الحوار، بأن المسرح والسينما والأغنية واللوحة ليست ترفًا، بل أدوات لصياغة الوعى الجمعي، ومن يمتلكها يستطيع أن يضع روايته أو سرديته فى مقابل كل تلك الروايات التى كتبها الآخرون. ألم يقولوا إن التاريخ يكتبه المنتصر؟ ربما ليس دومًا؛ فالتاريخ الآن تكتبه الكاميرا، وما تنقله أكثر وقعًا وقوة من كل الدراسات والتقارير البحثية. الصورة تبقى، تطارد الجلاد، وتجد مكانها فى قلب ضحيته.

• • •

تُبرز الصور القادمة من هوليوود وكتب ودراسات بحثت فى الصورة أنها ليست بريئة، بل سلاح أو انحياز للقوة القائمة، للرواية التى يريدها من يضع يده على الزر، وهو فى لحظة قادر على تفجير العالم ودماره، فيما هو فى هوليوود البطل المنقذ. قالوا قديمًا، ولا تزال مقولتهم صحيحة: من يملك المال والقوة يملك الصورة والرواية. لذلك فهوليوود لم تكن يومًا فضاءً لصناعة السينما فحسب، بل كانت ذراعًا ناعمة للسياسة الأمريكية، تروّج للرواية التى تريد واشنطن للعالم أن يراها. فلم ننسَ صور الهندى الأمريكى الأصلى، ومن بعده العربى أو المسلم، وجميعهم شعوب عنيفة وبدائية لا تحب الحياة، بل تتقن الموت! وفعلت الشىء نفسه مع الإيرانيين بعد سقوط الشاه؛ فمن صور ساحرة لإيران بقصورها ونسائها الأنيقات وتاريخها العريق، إلى صور لإيران «الشر». لكن ليس كل الفن كتلة واحدة، فهناك دائمًا من قاوم ويقاوم، وهناك فنانون وفنانات تمرّدوا على الصمت أو على الصورة النمطية التسطيحية، ودفعوا ربما ثمنًا لمواقفهم. ونحن اليوم فى بلداننا العربية أمام واقع مشابه لهوليوود، حيث يضع الممول والمسيطر تصوّره لواقعنا، ويراه فقط ضمن صورة تسطيحية يريد لها البقاء، فيما هى أبعد من ذلك.

• • •

النماذج كثيرة لفنانين انتصروا لإنسانيتهم، واستغلوا منصات مثل «الأوسكار» ومهرجان «كان» وغيرها للدفاع عن العدالة والمساواة والحق ضد الظلم والقتل والموت. معظمهم واجهوا حملات من قبل الجيوش الإلكترونية الحاكمة والمسيطرة، ولكنهم كسبوا قلوب جماهيرهم ولم يخسروا إنسانيتهم.

• • •

اختلفت أدوات القتل من الصاروخ والرصاصة والقذيفة إلى الصورة، فأصبحت السينما والمسرح والغناء ساحات الصراع الجديدة؛ من يملك الكاميرا يملك الذاكرة أو يصنعها ويعلّبها كأى بضاعة مغرية. ومن يملك المنصة يملك السرد. ولهذا فلا يمكن قبول أن «الفن محايد». فى زمن الظلم والإبادة يصبح الفن مشاركًا فى الجريمة، ويصبح الصمت موقفًا ملطّخًا بكثير من أشلاء الجثث وسقوط القوانين التى تحكم البشرية.

• • •

هناك من يردد: ليس المطلوب أن يكون للفنان موقف يسمونه سياسيًا، وقد يكونوا على حق، ولكن أليس من المفترض أن يكون الفنان مرهفًا وذو موقف إنسانى؟ ألسنا -حتى اليوم- نعيد مشاهدة والاحتفال بأفلام مثل «الأرض»، و«عودة الابن الضال»، و«سواق الأتوبيس»، و«شىء من الخوف» وغيرها، وهى ضمن أهم مائة فيلم عربى وربما تنافس كثيرًا من الأفلام العالمية؟

• • •

 أن تكون فنانًا فى هذا الزمن يعنى أن تقف كل يوم أمام سؤال صعب: لمن تُغنى؟ لمن تكتب؟ لمن تبتسم أمام الكاميرا؟ المهرجانات السينمائية الكبرى لم تعد ساحات فنية فقط، بل فضاءات سياسية. حين ترفع ممثلة على السجادة الحمراء كوفيةً فلسطينية، أو يحمل مخرج لافتةً «أوقفوا القتل»، فهو لا يقوم بلفتة رمزية، بل بفعل سياسى حقيقى، لأن الكاميرات التى تنقل صور الفساتين هى نفسها التى تخشى نقل صورة طفل ميت.

• • •

إن كلمة واحدة فى مهرجان «كان» قد تساوى عشرات التقارير الحقوقية التى لا يقرؤها أحد. ولذلك، تسعى القوى المهيمنة دائمًا إلى ضبط خطاب الفنانين عبر التهديد بسحب العقود أو تشويه السمعة أو العزل المهنى. ومع ذلك، يختار البعض أن يخسر مكسبًا ليكسب إنسانيته. تلك المفارقة هى ما يجعل الفنان، حين يلتزم بقضية إنسانية، يتجاوز دوره الفنى ليصبح شاهدًا فى محكمة الضمير العالمى.

كاتبة بحرينية

خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات