اضطررت بسبب الظروف التى اجتاحتنا للابتعاد عن الاستخدام اليومى للمترو والذى أتمنى لركابه السلامة وتحولتُ لاستخدام الدراجة أكثر بكثير مما كنت أستخدمها قبلها فأنا اليوم أركب الدراجة فيما مجموعه حوالى ساعة وأربعين دقيقة ذهابا وإيابا للمكان الذى أعمل فيه وحيدا هذه الأيام. كان لدى اختياران جربت الأول لمدة حوالى أسبوع على اعتبار أنه الأقصر وكان طريقا صحراويا واستبعدت الطريق الآخر المحازى للنيل لإحساسى أنه أبعد ثم قررت بعد أن تنفست كمية من الأتربة وعوادم السيارات أن أختبر الطريق المحاذى للنيل وما هى إلا تجربة واحدة حتى قررت الاستمرار إذ لم يكن فقط بنفس وقت الطريق القريب من الصحراء ولكن القرب من النيل حسم الاختيار. الشىء الرئيسى بالنسبة لى والذى لا يمكننى من نصح الآخرين من فعل ذلك هو عدم توافر المسارات الآمنة لراكبى الدراجات والتى أتمنى أن تنال من العناية ما تستحق لأنها ستوفر للمجتمع الكثير من المال عكس ما يحدث مع طرق السيارات التى تستنزف الأموال.
فى نفس الوقت كنت قد بدأت فى قراءة كتاب «الماء» استعرته من مكتبتنا وهو من إصدار المركز القومى للترجمة التى لا أستطيع أن أشكرها بما يكفى على جودة اختيار العناوين والموضوعات وحتى على مستوى الترجمة لما يزيد عن تسعين بالمائة مما قرأت من إصداراتها. تناول الكتاب الماء بصورة رائعة وشاملة وفيما تناوله علاقة الإنسان بالماء وكيف أن إحدى النظريات لنشأة وتطور الإنسان تتحدث عن نشأة الإنسان بالقرب من المسطحات المائية الكبرى كالمحيطات وتشرح تأثير ذلك فى غياب الشعر الكثيف عن جسم الإنسان وأشياء أخرى تقربنا من الكائنات المائية. ومن المصطلحات الرائعة التى تعرفت عليها فى تلك القراءة «المحب للماء» أو الميال له وهو ينطق بالإنجليزية هيدروفيلك ويصف الانجذاب الكيميائى الحادث لجزىء متأين للماء. وضح لى من هذا المفهوم لماذا نحب الماء والقرب منه ولماذا يعيش جزء كبير من البشر بالقرب من المسطحات المائية.
●●●
لا شك عندى أن المصطلح العكسى «المتنافر مع الماء» أو ما ينطق بالإنجليزية الهيدروفوبيك ينطبق على سجن طرة المطل على النيل والذى طالما تعجبت من وجوده فى هذا المكان وبالرغم من أنه أنشئ منذ أكثر من مائة عام على أرض تم اقتطاعها لتكون ملكا عاما تستخدمه الدولة، فالآن وفى ظل الكثافة السكنية الكبيرة للغاية والمحيطة به أتصور أنه قد آن الأوان لنقل السجن إلى مكان خارج الكتلة السكنية وأن ننشئ مكانه حديقة عامة تطل على النيل وتمثل متنفسا ليس فقط للسكان المحيطين بل ولسكان المدينة ككل. وأمام مصنع الاسمنت المتوقف منذ سنوات عديدة تجرى عمليات ردم فى النيل لكى يتم وصل جزيرة صغيرة بالضفة الشرقية له وكما هو معروف فإن أى تدخل فى مجرى النيل يؤثر ولا شك على مناطق أخرى كما يؤثر على الطبيعة الحيوية للنهر والضفة ويقلص من التنوع الحيوى. ما يزيد عجبى أن مصر استضافت منذ حوالى السنة قمة دولية فى التنوع الحيوى وبالتالى فهناك من يدركون أهمية التنوع الحيوى وخطورة تقلص التنوع المحلى محليا وعالميا على حياتنا وجودة المكونات الطبيعية الأساسية مثل الهواء والماء والتى هى وراء قدرتنا على الاستمرار فى الحياة.
أرى أيضا فى بعض المناطق القليلة بعضا ممن يبدو أنهم من سكان المناطق القريبة وهم يجلسون على بعض الأماكن المتبقية من شاطئ النيل يصطادون أو يتحدثون أو يقوم بعض الفتية الصغار بالسباحة والتى لا بد بالرغم من أنها توفر لهم لهوا مقبولا لكن نوعية المياه فى النيل قد تحتاج الكثير من الجهد حتى يمكن أن يسبح الناس فيه بأمان كما هو متاح فى بعض الأنهار فى أوروبا مثلا. وتنتشر الحدائق المسورة التابعة لمحافظة القاهرة والتى أعتقد أنه يجب إزالة أسوارها مع ضمان صيانتها ونظافتها كما لا نريد أبنية على النهر مهما كان اسمها مثل ذلك البناء الذى يدخل فى عمق النيل والمواجه للمبنى الرئيسى للبنك الأهلى ولكننا نريد تدخلات تستعيد التنوع الطبيعى الذى فقده النهر والذى يمثل فيه الشاطئ والجزر أماكن مهمة وحساسة للغاية ولما لذلك من تأثير على جودة مياه النيل والحياة الطبيعية فيه من أسماك وكائنات أخرى وأيضا من تأثير ذلك على إعادة جذب الطيور المهاجرة التى قلت بشكل كبير والتى تشكل جزءا مهما من دورة الحياة فى تلك الأماكن. تخيل مثلا أن تستمع فى صباح يوم ما وأنت تركب دراجتك بمحاذاة النيل فى المسار الآمن المخصص للدراجات تغريد طيور مهاجرة رائعة كما سمعتها أنا منذ أيام، كيف يكون يومك الذى تبدأه بهذه الطريقة.
●●●
لا نطالب باستعادة التماسيح فى جنوب القاهرة كما كتب أمين معروف عن جنوب القاهرة فى نهاية عصر المماليك فى روايته الرائعة «ليون الإفريقى» ولكن نطالب بإيجاد أماكن للتنزه أكثر طبيعية وأكثر دعما لحياة سكان المدينة ويعتمد على دراسة النظام البيئى لضفة النهر واستعادة ما يمكن من نباتات متنوعة وموائل للكائنات الأخرى ويسمى هذا النوع من التدخل «الحيوى» أو ما ينطق بيوفيليك.
ربما من الواجب أن نتأمل ونسترجع مفهوم الماء «المقدس» الذى لطالما شكل جزءا رئيسيا من معتقد المصريين القدماء عن نشأة الحياة وندعمه بما يتراكم من أبحاث ودراسات تؤكد على مدى أهمية الماء لحياتنا ولسلامة كوكبنا الذى نعيش عليه.