مسألة «مود» - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 6:03 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مسألة «مود»

نشر فى : الخميس 27 يونيو 2019 - 9:45 م | آخر تحديث : الخميس 27 يونيو 2019 - 9:45 م

تتكرر كلمة «المود» في كلامنا فنقول «مودي وحش» أو نقول «أنا مش في المود»، والمقصود أن مزاجنا تعكر وأننا لسنا على ما يرام، توجد عشرات الأسباب التي يمكن أن تجعلنا «مش في المود» وأحيانا لا يوجد سبب على الإطلاق، أو هكذا يبدو ذلك.

***
في هذا الصباح استيقظت صاحبتنا و«مودها مش رايق» على غير عادتها، داومت على روتينها اليومي لم تغير منه شيئا لكن بلا روح، الكل لاحظ ذلك فانهال عليها سؤال «مالك، وفيه إيه ؟» عشرات المرات. في أول مرة ردّت فيها على السؤال بدت هادئة وقالت «مافيش» ، ثم تكرر السؤال فأخذت تتوتر، وعندما زاد السؤال لاحظت أنها ترد بعصبية، أكثر من ذلك لاحظت أن «مودها» ساء أكثر فأكثر وأنها تقترب من البكاء. شعرت بالضيق من نفسها لأنها أوشكت على البكاء من شيء لا تعرفه لكن هذا كان شعورها فعلا، وهي لا تعرف كيف تداريه. غبطت أولئك الذين يضعون على وجوههم أقنعة تخفي مشاعرهم، أما هي فإن ملامحها تفضحها بل وتحرجها أحيانا عندما تدّعي الفرح أو الحزن فتصرخ تقاطيعها بصوت نشاز: كاذبة. حمدا لله أنها ليست شخصية عامة لتحتفظ بماسك السعادة لا تغّيره أبدا، هذا النوع من الشخصيات لابد أن يضبط «موده» على موجة واحدة ويكون مستعدا لمصافحة الكل وممازحتهم في كل الأوقات، وإلى الجحيم تذهب معاناته الصحية والنفسية. هي ليست هذه الشخصية العامة لكنها أيضا تعمل في جو تنعدم فيه الخصوصية تماما، وكل شيء فيه على المشاع، في غرفتها بالمؤسسة تتلاصق المكاتب حتى تبدو كما لو كانت عربات متتالية في قطار طويل، تدخل إلى مكتبها بمعاناة وتخرج منه بمعاناة، فلقد فرض عليها وضعها الوظيفي أن تجلس في الترسو أي تجلس في آخر مكتب / عربة بالغرفة.

***
اختارت أن تعود البيت سيرا علي الأقدام، من الدقي إلى السيدة زينب مسافة ليست قصيرة لكن وقتا طويلا مضى لم تُجرّب فيه قدميها المعطلتين وها قد جاءتها الفرصة لتمشي وتفكر، وبينها وبين نفسها فإنها أرادت أيضا تجنب المزيد من الاستفزازات من باب الحرص على ما تبقى من «المود». قالت لها زميلة «لا يتغير المود بدون سبب»، معذورة هذه الزميلة فهي لا تعرف أن لفظ مزاج أو «مود» نفسه يعني أن الأصل فيه هو التقلب وأنه لا يخضع لقوانين وضعية فالعقل يقيده المنطق أما القلب فمنفلت. واتهمتها زميلة أخرى بالبَطَر «فالصحة تمام والحمد لله والأهل أيضا»، واستطردت متهكمة «حتى إيليا أبو ماضي بيقولك مابك داء»، كَظَمَت غيظها بالكاد فهي تحب إيليا أبو ماضي هذا صحيح لكنه بالنسبة لها ليس بقدّيس، وقبل ذلك فإن زميلتها لا تدرك أن هناك فارقا بين البَطَر وتلك النوبات الانفعالية التي تنتاب أي كائن طبيعي فيكتئب ويثور ويغضب، لا تدرك أن داخل كل منّا يوجد مخزن مملوء بكراكيب المشاعر من كل نوع، وأن صاحب المخزن وحده هو من له الحق في إخراج ما يلائمه في الموعد الذي يلائمه، أما غيره فلا يملك هذا الحق.

***
لماذا لا تجرّب صاحبتنا الدخول إلى مخزن الكراكيب وتنقّب فيه لتعرف ماذا حداها بالضبط في الصباح لاختيار «مود» الضيق الذي مازال يلازمها؟ الآن هي منها لنفسها لا أحد يستجوبها وهي ليست مضطرة للإجابة، فلتجرّب من باب العلم بالشيء. أول ما تبادر إلى ذهنها كان سببا تافها جدا لكنه مع ذلك يدعو للغيظ فلقد فوجئت وهي في عجلة من أمرها «بالكولون» مقطوعا وهي لم تلبسه إلا مرة واحدة، نفخت وذهبت لتبحث عن آخر، فكرت أيضا في أن السبب الذي عكّر مزاجها ربما يكون تأخرها لمدة نصف ساعة عن العمل وهي في غنى عن خصومات التأخير.. في غنى عنها تماما، لكن لم لا يكون السبب هو هؤلاء الصبية الذين تركوا بقاياهم في نهر الطريق بعد ماتش كرة ساخن في المساء ؟ لم لا يكون الحر؟ أو الرطوبة ؟ أو الزحام؟ أو أي شيء وكل شيء. بل لم لا يكون السبب هو الحنين إلى كل الغائبين وهم يتكاثرون كلما مر عام، إن هواجسها توحي لها بأن الأحبّة يموتون أكثر من المعتاد، هل هناك معتاد ؟ نعم في الماضي كانت تفقد صديقة أو جارة أو قريبا كل عام أو اثنين، الآن اختلف الوضع فهي تُوّدعهم زرافات. سالت دمعة ساخنة لعقتها بسرعة البرق كأنها كانت تتوقعها مع أن حوارها مع نفسها أصلا كله جديد في جديد.

***
حتى هذه اللحظة كان حبيبها بعيدا عن حسابات «المود» والقيل والقال، أدارت حواراتها مع زميلات العمل ومع نفسها كأنه غير موجود مع أنه يملأ كل فراغاتها ويتمدد فيها على راحته فتتراجع فضاءاتها فضاء تلو فضاء لتُخلي له مساحة أكبر، وكلما توغل أكثر تجذّرت بهجتها أعمق فأعمق. نبهتها ذبذبات المحمول في جيبها إلى أن هناك من يتصل بها ووجدت اسمه منورا على الشاشة «رُشد» فانتقلت من نوبة الشرود إلى نوبة الصحيان. تذَكَرَت أنها لم ترُد مكالمته هذا الصباح وهي في غمرة انشغالها بالبحث عن «كولون» آخر، ألا لعنة الله عليه. في ڤيمتو ثانية انفصلت عن هواجسها وحواراتها مع الغير ومع نفسها، ودخلت في حوار مع «رشد»: عاتبها وسامحها وغازلها وواعدها، واعتذرت له ومازحته وهامت به وانتظرته، وفي الطريق اصطدمت بمن اصطدمت وتعثرت بما تعثرت، لكنها لم تُبال. رقص قلبها من اليمين للشمال وصدق صلاح چاهين حين قال ده كل يوم فيه ألف ألف احتمال. شدّت نَفْسَها وصلبت ظهرها وحثّت خطوها وتغّير «مودها».. تغيّر جدا.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات