عودة الدكتور داهش - سيد محمود - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 3:09 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عودة الدكتور داهش

نشر فى : الثلاثاء 27 يوليه 2021 - 9:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 27 يوليه 2021 - 9:40 م
فى ثمانينيات القرن الماضى كانت تلفت نظر زوار معرض القاهرة للكتاب ظاهرة اسمها جناح مؤسسة الدكتور داهش، كنت وقتها أقف مع كثير من الصبية فى انتظار الهدايا التى يوزعها مسئولو الجناح، وكانت «بوسترات» كبيرة الحجم وملصقات لصورة رجل غامض، ومعها بعض الكتب عن السحر والخوارق ظلت تثير خيالنا المراهق وبقى الدكتور داهش بعدها قابعا فى الذاكرة كلغز يشير إلى تلك السنوات البعيدة.
وقبل أيام زارنى الكاتب سامح الجباس ومعه روايته الجديدة «رابطة كارهى سليم العشى» (دار العين 2021) التى تدور كلها حول الدكتور داهش، عبر متخيل روائى يستعيد سيرته، ويخلق لها السياقات التى تجعل منه تمثيلا لظاهرة متكاملة يشتبك فيها ما هو فنى مع ما هو سياسى داخل لبنان الذى كان يتحمل وقتها الكثير من أسئلة الحداثة العربية سياسيا وثقافيا.
وسليم العشى الذى تقوم الرواية على تقصى سيرته هو شاب تحول إلى أسطورة فى زمنه بسبب ما كان يقوم به من تنويم مغناطيسى ثم استحضار الأرواح وأصبح نبيا وهاديا لأتباعه، ولقب نفسه بالداهش لأن ما فعله ساهم فى إدهاش الناس فى زمانه وأنتج كتبا كثيرة كانت ممنوعة من التداول فى مصر والبلاد العربية، وبعضها تُرْجِم إلى الفرنسية والإنجليزية.
وتثير الرواية الكثير من الاسئلة فى طموحها الفنى لاستعادة سيرة شخصية تقف بين الواقع والخيال، لكن ما أثارنى بالفعل يتعلق بجهد مؤلفها فى صياغة كولاج سردى يبنى علاقات بين نصوص داهش وكتاب اخرين مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف السباعى وظل معنيا داخل الرواية كبيرة الحجم بإبراز قيمة «التواشج» أو التناسل السردى إلى جانب الولع بعمليات اعادة إنتاج النصوص وهنا اللعبة الأهم التى تذكر بما كان يطرحه الناقد الفرنسى البارز رولان بارت عن «الروائية» كوسيلة للتدوين والتوظيف والاهتمام بالحياة اليومية بالأشخاص، وبكل ما يجرى فى الحياة، لخلق «الكتابة».
ولا ترتبط الروائية التى مارسها بارت فى نصوصه بمواضيع محددة، أو بعملية سرد قصة، ولكن بطريقة تقطيع الواقع. كما يشير إلى ذلك مقال ترجمه لطفى منصور لإيمانويل بيرى وهى الطريقة التى مارسها سامح الجباس بإتقان
وتعنى فكرة «الروائية»، قبل كل شىء، بما هو خارج الرواية وهذا بالضبط ما أرادته الرواية فى الاهتمام بـ«الميتا» روائى، أى ما قبل الكتابة وما هو خارجها، حيث يمكن للمرء أن يقرأ درامية حقيقية للشخص كاستجابة لمواجهة إشكالية الصورة النمطية، والمرور من الروائية (كأفق) إلى الميتا روائية (كممارسة ناجحة).
استعان الكاتب بمادة أرشيفية مبهرة تطلبت منه تفرغا تاما لعملية البحث فى مصادر وأوعية معلوماتية مختلفة ثم قام بعملية إعادة صياغة لهذا الأرشيف واستبعد منه المواد التى تثقل موضوعه أو تلك التى لا تلائم طموحه فى إعادة بناء الماضى ولأن النظر فى الماضى هو شأن المؤرخ بالأساس فهو لا يلبى عادة شغف الروائى الذى يفضل أن تكون لعبته هى الشك فى هذا الماضى أصلا ونقل هذا الشك لعقل القارئ واستفزازه ليستمر فى لعبة القراءة التى هى غواية أيضا.
وعادة ما يلتمس الكاتب فى هذا الطموح صيغة الرواية التى تُصنع، وبهذه الطريقة يمكن أن تعرف أكثر عن الرواية من النظر لها فقط كموضوع تمت صُناعته بالفعل من قبل الآخرين.
ووفقا لهذا التصور قدم سامح نفسه كشخصية داخل النص بحضور كامل على طريقة كسر الايهام وظهر بشحمه ولحمه ككاتب مصرى تختاره أحدى المؤسسات لكتابة رواية عن الدكتور داهش ويوقع عقدا يلتزم فيه بقواعد وشروط صارمة أهمها إقامته بمنزل سليم العشى مؤسس الداهشية؟ وهو بيت يبدو من السياق السردى أنه بيت اللعنات.
ونجح الجباس فى خلق سبيكة روائية بنفس تشويقى نادر فى الرواية العربية والى جانبها أنتج معرفة كاملة دون أن يفقد عنصر التسلية والمتعة وهو عنصر فعال فى إنتاج هذا النوع من الروايات.
وجانب من ذكاء الكاتب يرتبط بحضوره فى النص فهو كاتب مصرى يكتب سيرة شخصية لبنانية وما يثيره أصلا مرتبط بالمجال الذى جاء منه لذلك اشتغل طويلا على حضور داهش فى مصر وتساءل عما إذا كان له اتباع فيها؟ وأعتنى كذلك بتناول المبدعين المصريين لأفكار حول التقمص والسحر والخوارق التى تأتى من العالم الآخر وتداخل مع نصوص لتوفيق الحكيم ويوسف السباعى ونجيب محفوظ وعبدالحكيم قاسم، ونقل للقارئ أسئلته حولها وربطها باقتدار بالنصوص التى انتجها (داهش) وأوجد الجباس عبر لعبته الثرية رواية تمجد المغامرة والسؤال وتحتفى بمن أسقطتهم الذاكرة.