ذكرى عبدالناصر ودروس مستفادة - وليد محمود عبد الناصر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:43 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ذكرى عبدالناصر ودروس مستفادة

نشر فى : الأحد 27 سبتمبر 2020 - 9:10 م | آخر تحديث : الأحد 27 سبتمبر 2020 - 9:10 م

تمر هذه الأيام الذكرى الخمسون لغياب الرئيس المصرى الراحل جمال عبدالناصر عن عالمنا، وهى مناسبة مهمة يتعين التوقف عندها كثيرا؛ لاستخلاص العديد من الدروس المستفادة من التجربة الناصرية، أخذًا فى الاعتبار أن نصف قرن هو فترة كافية إلى حد كبير تُمكِّننا من الدراسة الموضوعية والبحث المدقق والنظر المتأنى فى تلك التجربة المهمة؛ بهدف العمل على استخلاص استنتاجات تكون ذات فائدة، ليس فقط من المنظور التاريخى ولكن أيضا بغرض الاستفادة من تلك الدروس المتعلقة بالماضى فى الحاضر والمستقبل على حد سواء. وسوف نقتصر هنا على تناول خمسة مما نرى أنها ضمن تلك الدروس المستفادة.
وأول الدروس التى سنعرض لها هنا تتصل بالعلاقة بين دور الفرد فى التاريخ من جهة وضرورة بناء دولة المؤسسات من جهة أخرى. فالمؤكد أن الرئيس المصرى الراحل كان يتمتع بشعبية كبيرة، سواء داخل مصر أو على امتداد الوطن العربى، حيث اعتبر الكثير من المحللين أنه كان بحق قيادة كاريزمية، ومن الصحيح أيضا أنه نجح فى تحقيق العديد من المكاسب ذات الطابع التقدمى، خاصة فى المجالات الاجتماعية والثقافية خلال سنوات حكمه، وهو الأمر الذى استفادت منه بالذات قاعدة واسعة من الفئات الاجتماعية الدنيا والوسطى فى هيكل التركيبة الطبقية للمجتمع المصرى.
إلا أنه بالمقابل فإن العديد من تلك الإنجازات تم الارتداد عنها وتبنى خيارات مناقضة لها بشكل سهل وسريع وبدون أن يواجه ذلك بمقاومة تذكر من جانب المستفيدين من تلك الإنجازات، وذلك خلال فترة قصيرة بعد وفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. والدرس الأساسى المستفاد من ذلك هو أنه مهما كانت أهمية دور الفرد فى التاريخ بحسب بعض النظريات فى العلوم السياسية، وهنا نعنى بشكل أكثر تحديدا دور القائد السياسى، فإن كل ما يحققه قابل للتراجع عنه والانقضاض عليه طالما لا توجد مؤسسات وطنية راسخة وقوية وذات طابع تمثيلى حقيقى وفعال ومؤثر تحافظ على تلك الإنجازات، بل وتقوم بمراجعتها بهدف تطويرها وتكييفها مع الاحتياجات المجتمعية المتجددة والمتغيرة والتأكد من أنها تستمر فى تحقيق المصلحة والمنفعة للفئات الاجتماعية التى تحققت تلك الإنجازات من أجلها فى المقام الأول.
أما ثانى الدروس فيتعلق بتبلور تصور ما للمستقبل لمصر فى الحقبة الناصرية، حتى ولو كان ذلك قد تم على مدار سنوات ومن خلال المرور عبر منهج «التجربة والخطأ»، وهو ما يطلق عليه البعض تعبير «المشروع الوطنى»، ويطلق عليه البعض الآخر تعبير «المشروع القومى»، باعتباره اشتمل آنذاك على الأمة العربية بأسرها وليس الشعب المصرى فقط، وقد وفر ذلك التصور مظلة عامة للعديد من السياسات التى اتبعت على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما أن مثل هذا التصور وفر أيضا التفسير لتلك السياسات بالإضافة إلى كونه مبررا لها، وفى سياق ذلك التصور جرت العديد من التحولات التاريخية، بعضها نجح وتطور وتعاظم وبعضها الآخر تعثر أو تعرض لإخفاقات أو انتكاسات، ولكن فى المجمل شكل التصور العام لصورة المستقبل الإطار الجامع لجميع تلك التحولات بما يضمن تناغمها وتجانسها وإسهامها فى تحقيق أهداف عامة هى المطلوب تحقيقها.
ويكفينا على سبيل المثال أن ننظر إلى الارتباط فيما بين سياسات وقرارات مثل قرار بناء السد العالى فى أسوان وقرار تأميم قناة السويس والتركيز على بناء قاعدة قوية فى التصنيع الثقيل والتوسع فى تطوير الطاقة الكهربائية، لكى ندرك مضمون ما ذكرناه فى الفقرة الماضية، وتكمن أهمية ذلك فى أن المدخلات تتم على أساس العمل من أجل ضمان المخرجات المخطط لها، والإسهام فى تحقيق انتقالات نوعية فى العملية الإنتاجية، وتجنب العمل بشكل عشوائى أو فى صورة قرارات وسياسات و«إنجازات» منفردة منقطعة الصلة ببعضها البعض.
أما الدرس الثالث المستفاد، وهو مرتبط بالدرس الثانى السابق ذكره، فهو أنه بينما كان هناك ذلك التصور المستقبلى على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن التجربة أثبتت أنه مهما كانت الإنجازات فى تلك الميادين، ومهما كان التقدم فى تحقيق العدالة الاجتماعية والتكافؤ الاقتصادى ورفع مستوى الوعى الثقافى وتوسيع مداه، فتبقى أوجه القصور فى ميدان العمل السياسى لا يمكن أن يقول قائل إنه يعوضها ما تحقق اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، فلا شك أن المحصلة النهائية فى مجالات الحريات المدنية والسياسية وحماية حقوق الإنسان والديمقراطية السياسية كانت سلبية فى المجمل، بالرغم من الإقرار بما تحقق فى مجالات الديمقراطية الاجتماعية أو فى مجالات الحريات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وقد بقيت الديمقراطية السياسية بمثابة الفريضة الغائبة من وجهة نظر البعض أو الفريضة المنقوصة من وجهة نظر البعض الآخر فيما يتعلق بالتجربة الناصرية، وذلك بالرغم من بعض الاجتهادات فى تفسير أو تبرير غياب النجاح فى تحقيقها أو ربما عدم إعطائها الأولوية التى تستحقها منذ البداية.
أما الدرس الرابع المستفاد من مراجعة وإعادة قراءة التجربة الناصرية بعد نصف قرن على رحيل الرئيس جمال عبدالناصر فهو متصل أيضا بدرجة ما بفكرة التصور المستقبلى أو المشروع الوطنى، ويرتبط هذا الدرس بأن مصر اكتسبت الريادة فى عدد من ساحات العمل الخارجى وأظهرت فعالية فى التعامل مع العديد من قضايا العلاقات الدولية، بل وكان لها السبق فى طرح المبادرة بشأن العديد من القضايا التى لم تكن أصلا على جدول أعمال المجتمع الدولى، بل لقد كان لمصر الناصرية بلا شك بصمتها على هيكل النظام الدولى وبنيته فى مرحلة مهمة من إعادة تشكيل ذلك النظام بدءًا من خمسينيات القرن العشرين.
فقد ساهمت مصر فى تأسيس العديد من أوجه التنظيم الدولى والإقليمى المعاصر آنذاك، واتسم كل منها بالفعالية والديناميكية والحركة النابضة، بداية بالتجمع الأفروآسيوى فى باندونج، ومرورا بالدور المصرى المؤثر فى إنشاء حركة عدم الانحياز ومنظمة الوحدة الأفريقية، ووصولا إلى الدور القيادى فى تأسيس مجموعة الـ 77 للبلدان النامية وإقامة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأنكتاد)، كما طرحت مصر على الساحة الدولية وعبأت الدعم لمبادراتها فى موضوعات مثل نزع السلاح والتعاون الاقتصادى فيما بين البلدان النامية وحق الشعوب فى ممارسة سيادتها على مواردها الطبيعية.
وآخر وخامس الدروس المستفادة من استحضار ودراسة التجربة الناصرية التى سنتناولها هنا فهو رأى عبرت عنه فى كتاب لى عن التجربة الناصرية صدر منذ ثمانية عشر عاما، وما زلت مقتنعا به، ألا وهو أن الثلاث سنوات التى فصلت بين هزيمة 5 يونيو 1967 ووفاة الرئيس جمال عبدالناصر فى 28 سبتمبر 1970 كانت هى السنوات الأكثر نضجا فى تلك التجربة، حيث بدا أن الرئيس الراحل قد استوعب على الأقل بعض الدروس المستفادة من فترة حكمه السابقة، وأنه حرص على تصحيح بعض الأوضاع وإعادة توجيه الدفة فى أوضاع أخرى.
وكان من الميادين التى شملتها تلك المراجعات، على سبيل المثال لا الحصر، التأكيد على دور العلم والبحث العلمى والتطوير التكنولوجى فى تطوير المجتمع والاقتصاد والدولة، وبوادر، ولو على استحياء وعلى نطاق محدود، للحديث عن ضرورة مراجعة الأوضاع المتصلة بالحريات المدنية والسياسية واحترام حقوق الإنسان ومتطلبات الديمقراطية السياسية، بالإضافة إلى إرهاصات متعلقة بإفساح بعض المجالات لإسهام القطاع الخاص والمبادرة الفردية فى المجال الاقتصادى.
وهكذا عرضنا لخمسة ضمن دروس كثيرة مستفادة مستمدة من الدراسة والبحث فى تاريخ التجربة الناصرية ومعطياتها فى الذكرى الخمسين لرحيل الرئيس المصرى الراحل جمال عبدالناصر.

وليد محمود عبد الناصر مفكر وكاتب مصرى
التعليقات