بداية، يقول الكاتب إن أوروبا كانت منطقة نائية قبل ألف ومائة عام، ولم تكن بها مدن كبرى باستثناء قرطبة فى إسبانيا التى كانت إسلامية. أما الشرق الأوسط فكان متقدمًا جدًا عن أوروبا، بدليل استيعابه العلوم والطب والعمارة اليونانية، إضافة إلى تقدم الزراعة وازدهار التجارة فى الشاى والخزف والحرير فى جنوب الصين.
لكن بحلول عام 1914، اختلفت الصورة تماما، إذ سيطر الأوروبيون على 84% من الكرة الأرضية. وهنا يتساءل الكاتب، كيف أصبحت أوروبا والولايات المتحدة القوة الديناميكية المهيمنة فى العالم، وما زالت كذلك حتى اليوم فى أغلب الأمور؟.
يرجح البعض السبب للثورة الصناعية. علما بأنه فى عام 1800، عندما كانت الثورة الصناعية فى بدايتها، كان الأوروبيون يحكمون بالفعل 35% من العالم وكانت لديهم سفن مسلحة فى كل محيط ومستعمرات فى كل قارة.
ويقول البعض الآخر إن السبب فى ذلك هو أن الأوروبيين كانوا متقدمين فى تطوير تكنولوجيا البارود. ففى نهاية المطاف، سبقت الثورة العسكرية الثورة الصناعية.
ويوضح الكاتب لما ذهب البعض إلى هذه الحجة بالرغم من أن البارود كان مخترعا فى الصين من قبل، وبحلول القرن السادس عشر كان العثمانيون يصنعون مدفعية عالية الجودة. إلا أنهم، حسب رأى الكاتب، لم يتمكنوا من مواكبة وتيرة التطور التكنولوجى الأوروبى. ويرجح الكاتب أن تقدم أوروبا فى تكنولوجيا البارود يعود لسببين أولهما: هو عدم وحدة الأراضى الأوروبية، فمنذ سقوط شارلمان لم يعد هناك من يمتلك من القوة ما يكفى للحفاظ على تماسك أوروبا. إلى جانب ذلك، يذكر الكاتب أن الباباوات فضلوا سياسة «فرّق تسد» ولم يريدوا زعيما أوروبيا قويا واحدا من شأنه أن يقلل من قوتهم.
ثانيهما، أن الصين واليابان والإمبراطورية العثمانية كانت قوى مهيمنة ضخمة. ومن الطبيعى أن تقتنع القوة المهيمنة بأنها لا تحتاج إلى بذل الكثير من الجهد للحفاظ على تفوقها العسكرى، ما دامت هيمنتها السياسية واسعة النطاق. ولكن عندما يتعلق الأمر بتكنولوجيا البارود وتكييفها مع السفن الحربية، فإن القوى الأوروبية الأصغر حجما، التى تسعى كل منها إلى التفوق على الأخرى، غالبا ما تكون قادرة على اتخاذ القرارات المهددة للقوى المهيمنة فى آسيا. إذن أدت هذه العوامل مجتمعة إلى تفوق أوروبا فى تكنولوجيا البارود عن أى مكان آخر فى العالم.
• • •
يزعم فيليب هوفمان، الأستاذ فى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، فى كتابه «لماذا غزت أوروبا العالم؟» أن وتيرة الابتكار فى أوروبا كانت مدفوعة من المنافسة العسكرية التى يسميها «البطولة» ــ وهو النوع من المنافسة الذى يمكن أن يدفع المتسابقين، فى ظل الظروف المناسبة، إلى بذل جهود هائلة على أمل الفوز بجائزة.
وهذا ما حدث فى أوروبا، وليس فى أى مكان آخر. فقد رفع الحكام الأوروبيون الضرائب وأغدقوا الموارد على الجيوش والبحرية وتكنولوجيا البارود ودفعوا عجلة البحث العلمى إلى الأمام. فضلاً عن ذلك، وعلى النقيض من آسيا، لم يواجه رواد الأعمال من القطاع الخاص سوى القليل من العقبات القانونية أو المالية أو السياسية التى حالت دون إطلاق حملات الغزو والاستكشاف. وهكذا تمكنت شركة الهند الشرقية البريطانية من غزو جزء كبير من الهند.
لذلك يؤيد الكاتب الحجة القائلة بأن هيمنة أوروبا على العالم، بواسطة الحروب، أدت إلى نجاح الثورة الصناعية وليس العكس. فانتصارات بريطانيا المتكررة منحتها حصة كبيرة من التجارة الأوروبية بين القارات. وقد أدى ذلك إلى خلق فرص العمل فى المدن البريطانية، وبالتالى رفع الأجور والطلب على الزراعة. كما حفزت الأجور المرتفعة اختراع الآلات الموفرة للعمالة، مثل آلات الغزل والطاقة البخارية. ومن هنا جاءت الثورة الصناعية.
ويضيف بعض المؤرخين إلى هذا المزيج الأرباح الهائلة التى جنتها بريطانيا من تجارة الرقيق فى منطقة البحر الكاريبى وأمريكا الشمالية، والتى وفرت قدرًا كبيرًا من رأس المال اللازم لبناء الآلات والمصانع. ويؤكد هوفمان على أهمية النظام القانونى والمالى الموحد فى بريطانيا وسيطرة البرلمان على المال.
• • •
لدينا الآن صراع جديد من أجل الهيمنة. يهدد المرشح الرئاسى الأمريكى دونالد ترامب بمواجهة الصين وجها لوجه بشأن الممارسات التجارية، ويقول للأوروبيين إنه من الأفضل لهم أن يحذوا حذو أمريكا إذا كانوا يريدون البقاء على علاقة طيبة مع واشنطن.
من الجيد أن نتصور أن المجتمع البشرى قد تقدم بما يكفى بحيث يصبح من الممكن أن يتحول القليل من النقاش العدائى إلى أمر جيد إذا أمكن القيام بذلك دون جولة أخرى من تكنولوجيا البارود وضمن الإطار القانونى الذى ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية.
ولكن العلامات ليست مبشرة. فترامب يتجول مرتديا قبعة «جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، محذرا من أنه سيترشح فى انتخابات بلاده حتى يتمكن من اتخاذ القرارات فى العالم. وعلى الجانب الآخر من الكوكب، لا يتردد الرئيس شى جين بينج فى إظهار تفوقه ــ فالصين على الأقل صارت تعادل الولايات المتحدة.
إذن من الواضح أن العالم يستعد لخطوة أخرى إلى الأمام ــ ربما خطوة زلزالية ــ فى تطوره السياسى والاقتصادى. ونحن نرى الآن بدايات هذه الخطوة. ويعتقد الكاتب أن هذه الخطوة تحمل كل مقومات التدمير الذاتى على المدى الطويل.
جوناثان باور
موقع Eurasia review
ترجمة: وفاء هانى عمر
النص الأصلى:
https://shorturl.at/N1m2P