نشر موقع psyche مقالًا للكاتب توماس جويتز، تناول فى هذا المقال ظاهرة «الملل الروحى»، حيث الجميع يتحدث عن التأمل كطريق للسكينة، واليوجا كوسيلة للسلام الداخلى، والخلوات الروحية كنافذة للتجدد النفسى. لكن ماذا لو شعرت بالملل؟ ماذا لو تحوّلت اللحظات التى يُفترض أن تكون مريحة إلى عبء ثقيل على النفس؟ هذا الشعور المربك، الذى لا يتحدث عنه كثيرون، يُعرف بـ«الملل الروحى». وهو ليس دليلًا على الضعف أو نقص الإيمان، بل قد تكون علامة ذكية من العقل تطلب منك إعادة التوازن.
نغوص فى مقال يفتح نافذة جديدة لفهم هذا النوع من الملل، ونكتشف كيف يمكن أن يتحوّل من شعور مزعج إلى أداة لفهم الذات وتطوير التجربة الروحية بشكل أعمق وأكثر صدقًا.. نعرض من المقال ما يلى:
فى زمن تتزايد فيه الدعوات للتأمل، واليوجا، والصلاة، والخلوات الروحية كوسائل للسلام النفسى والتوازن العقلى، نادرًا ما نجد من يسلّط الضوء على ما قد يشعر به الكثيرون بصمت: الملل. إنه شعور غير مرحّب به، وغالبًا ما يُخجل البعض من الاعتراف به، وكأن مجرد الشعور بالملل من التأمل أو الصلاة هو تقصير روحى أو نقص فى الوعى.
لكن هذا المقال الصريح والواقعى، يقدّم رؤية مختلفة، وربما مطمئنة: الملل الروحى ليس فقط طبيعيًّا، بل قد يكون مفيدًا أيضًا.
حين يصبح التأمل عبئًا: قصة مألوفة
ينطلق المقال من حكاية بسيطة، قد يجد فيها كثيرون أنفسهم: صديقة الكاتب شعرت بالضيق من ممارستها للتأمل، رغم أنها كانت مقتنعة بفوائده. ذهنها يتشتت، جسدها يشعر بالثقل، والزمن يمر ببطء مزعج. ومع أن التجربة كانت تهدف للسلام الداخلى، فإن النتيجة كانت النفور والإحباط، ما أدى بها فى النهاية إلى التوقف.
هذه القصة ليست حالة فردية. فالكاتب، من خلال عمله فى علم النفس التربوى، يؤكد أن ما يُعرف بـ«الملل الروحى» هو ظاهرة موجودة ومتكررة، لكنها مهمَلة فى الخطاب الروحى والمعرفى.
الملل فى التاريخ الروحي: ليس جديدًا
من المدهش أن الملل ليس غريبًا عن التاريخ الدينى. وقد عُرفت هذه الظاهرة فى العصور الوسطى باعتبارها عارضًا روحيًا يُطلق عليه اسم الملل «Acedia» باللاتينية، وهى حالة تتسم بالخمول والحزن العميق. وقد أشار إليها مسيحيون بوصفها «شيطان الظهيرة»، وهو مفهومٌ وصفه القديس توما الأكوينى بأنه «حزن العالم» و«عدو الفرح الروحى».
كما تصوّر بعض الأعمال الفنية مؤمنين يتثاءبون أو ينامون أثناء الخطب الدينية. وحتى فى البوذية، نجد إشارات إلى الملل خلال المواعظ والاحتفالات الدينية.
ما يزال الملل يُعتبر نوعا من المحرمات معاصرًا. فلا أحد يحب أن يُوصَف بأن ممارسة روحية ما أصابته بالملل، لأنه بذلك قد يبدو كمن لا يفهم عمق التجربة أو لا يقدّر قيمتها.
دراسة علمية لكسر الصمت
بهدف فهم الظاهرة بشكل علمى، قرر الكاتب وفريقه إجراء بحث شمل خمسة سياقات روحية: اليوجا، التأمل، الخلوات الصامتة، الخُطب الكاثوليكية، والرحلات الدينية. شارك فى الدراسة أكثر من 1200 شخص، تم سؤالهم عن مدى شعورهم بالملل، وأسبابه، وآثاره.
رغم أن المتوسط العام للملل لم يكن مرتفعًا (1.91 من 5)، إلا أن مستويات الملل اختلفت بوضوح بين السياقات. الخُطب الدينية جاءت فى المرتبة الأعلى (3.60)، بينما الرحلات الدينية كانت الأقل مللًا (1.24)، ربما بسبب تنوّع التجارب والتفاعلات فيها. النتيجة اللافتة كانت أن هناك من شعر بملل شديد فى كل ممارسة روحية، مهما كانت طبيعتها.
نظرية" التحكم والقيمة": مفتاح الفهم
اعتمدت الدراسة على نظرية التحكم والقيمة (Control-Value Theory)، وهى نظرية فى علم النفس ترى أن الملل ينتج عندما:
• لا نشعر بالتحكم: إما لأن الممارسة صعبة جدًا، أو سهلة أكثر من اللازم.
• لا نجد قيمة شخصية للنشاط.
عندما يشعر الشخص مثلًا أن تمارين التأمل مرهقة ذهنيًا، أو أنه لا يرى صلة بين الخلوة الروحية وحياته، يظهر الملل كإشارة تحذيرية. ومن المثير أن البحث أكد هذه النظرية عمليًا، حيث ظهر أن الأشخاص الذين شعروا بأن الممارسة لا تناسبهم أو لا تُعنى لهم شيئًا، كانوا الأكثر شعورًا بالملل الروحى.
الملل ليس العدو بل هو دليل
وهنا تكمن رسالة المقال الجوهرية: الملل ليس عدوًّا للممارسات الروحية، بل هو علامة ذكية. من منظور تطوّرى، الملل موجود ليُشير إلى أن شيئًا ما لا يعمل. قد يكون النشاط مبالغًا فى تعقيده، أو مكررًا، أو فقد معناه. والوعى بهذه الإشارة يمكن أن يُساعدنا فى إعادة ضبط علاقتنا بالممارسة.
قد يكون الحل ببساطة هو تقليل مدة جلسات التأمل الطويلة، أو استعادة الهدف الشخصى من الصلاة، أو السعى للانخراط فى شكل جديد من الممارسة يعيد لها معناها.
ماذا نفعل عندما نشعر بالملل الروحى؟
يقترح الكاتب خطوات عملية وواقعية للتعامل مع هذا النوع من الملل:
• اسأل نفسك: هل أشعر بالتحدى الزائد؟ أم أن النشاط سهل جدًا؟ وهل ما زالت هذه الممارسة تحمل معنًى لي؟
• عدّل طريقتك: قلّل من المدة، أو غيّر الشكل، أو انخرط فى تجربة جماعية أكثر مرونة.
• استعن بالمرشدين: اطلب من المعلم أو القائد الروحى تسليط الضوء على الفوائد، أو تنظيم جلسات حوارية بعد الممارسة لتبادل التجارب.
• لا تخجل: الملل ليس ضعفًا، بل صوتا داخليا صادق يدعوك لإعادة التوازن.
نهاية ملهمة: الملل يقود إلى العمق
يختم الكاتب المقال بقصة الصديقة التى بدأت الرحلة: بعد أن فهمت أن الملل كان إشارة وليس عيبًا، عادت إلى التأمل بشروط جديدة. توقفت عندما شعرت بالإرهاق، ثم عادت تدريجيًا، ووجدت انسجامًا أفضل بين قدراتها والممارسة. النتيجة؟ تجربة أكثر عمقًا وهدوءًا.
يختتم الكاتب مقاله بقوله، دعونا نتحدث عن الملل الروحى ربما آن الأوان لكسر الصمت حول الملل فى الممارسات الروحية. فبدلًا من إنكاره أو الخجل منه، يمكننا أن نفهمه كفرصة للتأمل فى التأمل ذاته. أن نسأل أنفسنا: لماذا أفعل ما أفعل؟ وهل لا يزال ذلك يخدمنى؟
هذا المقال لا يدعو إلى التخلى عن الممارسات الروحية، بل إلى الصدق مع الذات فى ممارستها. فحين نمنح الملل حقه فى الحديث، فإنه قد يقودنا إلى تجربة روحية أكثر صدقًا، وعمقًا، وراحةً.
• • •
فى النهاية، الملل الروحى ليس علامة ضعف، ولا دليلًا على أنك لا تصلح لهذه الممارسات، بل هو صوت داخلى يطلب منك الإصغاء لا الانسحاب. هو لحظة توقّف تُجبرك على أن تسأل: "هل ما أفعله ما زال يخدمنى؟ هل يناسبنى كما هو؟".
النصيحة هنا بسيطة وعميقة فى آنٍ واحد. لا تتجاهل الملل، ولا تخجل منه بدلًا من مقاومته أو الهروب منه، اجعله دليلك. غيّر إيقاع ممارستك، أعد الاتصال بنيّتك الأصلية، وتعلّم أن تسمح للتجربة بأن تتطور معك لا أن تبقى جامدة. الملل قد لا يكون عقبة فى طريقك الروحى، بل قد يكون المفتاح الذى يفتح لك بابًا جديدًا نحو تجربة أكثر صدقًا، وهدوءًا، وارتباطًا بذاتك.
مراجعة وتحرير: يارا حسن
النص الأصلي:
https://bitly.cx/M68C