كان الشهر الذى أقضيه وأنا طفلة فى قريتنا الصغيرة من أمتع أوقات أجازتى الصيفية. قرية «على شمال السماء» كما كانت توصف فى إشارة ليس إلى بعدها عن العاصمة فلم تكن بهذا البعد لكن نسبة إلى بساطتها الشديدة وهو تحديدا ما كان يأسرنى، فالبحث عن النقيض المطلق لحياة العاصمة كان من شروط التغيير. ومثل هذا الوضع كان يختلف عن وضع المركز الذى تقع القرية فى محيطه وهو مركز قلين، ففى المركز بعض من لمحات الحضر التى كانت تفتقدها قريتى بالمطلق، فإن أردت قراءة الصحف فلا مناص من أن تذهب إلى محطة قلين، وإن أصابتك وعكة صحية فالطبيب الأقرب إليك هو الدكتور إيميل أو «أوميل» ــ كما كانوا ينطقونه ــ وعيادته وسط قلين، وإن هفوت لشراء حلوى أو حلى فقلين مقصدك. كان هذا المزيج ما بين الريف والحضر الذى مثَّله المركز مطلوبا وما كان أى أسبوع يخلو من زيارة له لغرض أو لآخر لكن سحر قريتى الصغيرة كان مكمنه بدائيتها الشديدة.
***
كانت بيوت القرية مصنوعة من الطين ولها أسطح مغطاة بالقش ومنها تفوح رائحة الخبز الطازج وطواجن الأرز المعمر ومثلها كان بيت عائلتى. فى الطابق الأرضى غرفتان متواجهتان وصالة واسعة ومطبخ، وكان ملحقا به حظيرة وغرف صغيرة للطيور وفرن كبير. يأتى الصباح فى الأيام الخوالى فتجلس جدتى ووالدى وأعمامى الثمانية وبعض أسرهم لتناول الإفطار فى الطابق الأرضى فلا يفوت جدتى أن تغلق شيش النافذة درءًا للحسد، ففى الروايات المنسوجة من صنع الخيال أن عين الحسود أفقدت جدتى ثلاثة من أبنائها حتى أعيتها، فإذا هى تطلق اسم روميل على أحد الأبناء على سبيل التمويه، وإذا هى تطلق اسم محمد على اثنين من الأبناء تحصينا لهما فتخلق لهما غير آبهة مشاكل بلا عدد. أما الطابق العلوى من البيت فقد خصص لسكن عمى الأكبر وكان إمام القرية. وعندما يحل المساء كان يأتى حاملا معه تلك اللحظات الذهبية التى أسير خلالها كالمسحورة فى ركاب عمتى وهى تطارد الدواجن فى الفناء حتى تبيت فى الغرف المتجاورة بملحق البيت، وأذكر أن تلك المطاردة بكل طرائفها كانت مصدر إثارة عقلية بلا مدى. لكن قبل سنوات انهار جزء من البيت القديم ثم تداعت باقى الأجزاء وشيد صاحب النصيب على الأرض الفضاء بيتا شبه حديث.. شيده على تلال من الذكريات.
كانت طرقات القرية الضيقة تحدها من الجانبين أرض زراعية على مدد الشوف فلا يقطعها إلا الفلاحون سيرًا على الأقدام أو فوق دوابهم، وفيها كانت تساق الماشية إلى الحقول ذهابا وإيابا، أما السيارات فكانت اختراعا لا قبل للقرية به. وعندما اشترى أبى سيارة فى ثمانينيات القرن الماضى، ودخل بها القرية مزهوا ونحن معه لم يكن الغبار الذى تثيره عجلات السيارة كافيا لستر نظرات الفضول الشديد فى عيون الأطفال وأصحاب الدكاكين وكأننا كائنات هبطت من السماء.
***
مضت أعوام طويلة جدا لم أذهب فيها إلى قريتى الجميلة، لم يعد لى فيها مأوى، ذهب بيت العائلة وذهب بالطريقة نفسها الدوار المقابل له حيث كنّا نستقبل الضيوف، كما كنّا نتسلل إليه لنبيت فيه ونلهو على درجه الذى يفضى إلى الأرض الزراعية. عندما كانت تكلفنا جدتنا بأن نأتى لها من الأرض ببعض الخضر الطازجة كان يتملكنا شعور حقيقى بأننا فى مهمة مقدسة فنخوض فى وسط الزرع ونتخير ضالتنا بحرص ثم نطير جوعى محملين بها إلى البيت القديم.
أقول مضت سنين كثيرة قبل أن أذهب إلى قريتى الصغيرة الأسبوع الماضى لأداء واجب اجتماعى فكأننى لم أذهب أو كأننى ضللت الطريق. تبدلت ملامح القرية بالكامل فلا احتفظت ببكارتها ولا صارت نسخة مكررة من المركز ففى الأخير حيز يسمح بأبنية وزحام أما فى قريتى الصغيرة فلا. أخلت الأرض الزراعية على جانبى الطريق مكانها لمبانٍ خرسانية عالية، وحفل مجرى الطريق بكل أنواع وسائل النقل والمواصلات: المقطورات، السيارات، الدراجات، التوك توك وآه من التوك توك المنتشر انتشار النار فى الهشيم. رسم سائق على ظهر التوك توك شعار شركة مصر للطيران يقصد التلميح إلى سرعته الفائقة، هكذا؟ لم أدر هل أضحك أم أبكى. المطبات الصناعية المتتالية لفرملة تدفق هذه المركبات على اختلافها جعلتنا أشبه ما نكون فى حلبة ملاهٍ أو فى اختبار للتدرب على القيادة. ولأن المشهد كان على هذا النحو ولأن السوق عرض وطلب انتشرت بشكل لافت محلات لبيع كل مستلزمات البناء، كما انتشرت أيضا محلات إصلاح السيارات. حانت منى التفاتة لعربة تريسكل فرأيت صاحبها يضع فى الصندوق الخلفى «مايكروويف» وكانت الرسالة أن أفران البيوت القديمة باتت أثرا بعد عين.
***
رغم قسوة اللحظة التى انهار فيها بيت العائلة والدوار المواجه له بكل ذكرياتهما الجميلة، ظلت القرية بجميزتها ورائحتها وغيطانها شاهدة على الذكريات، لا أتردد على القرية نعم لكنى مطمئنة إلى أن هذه المعالم موجودة وهذا الدفء قائم وهذا العبق يملأ الأجواء. أما بعد زيارة الأسبوع الماضى فحلت اللحظة الأقسى حيث الغربة تامة عن المكان والنَّاس، وقبل أن أستعيد سواء نفسى ظل يطاردنى سؤال: لو أنى قصصت على حفيدتى حكايات عن «قريتى التى كانت» فهل تراها تصدقنى أم ستحسبنى أنسج قصصا من الخيال كمثل حكايات السحر والسحرة التى كانت ترويها جدتى؟